تأتي الأعياد وتنصرف، وينقضي حول ليعود العيد إلينا.. وها هو عيد الفطر السعيد يقف ببابنا، ولم يبق إلا بعض الوقت حتى يهل علينا هلاله.. لنفرح، ونبتهج بقدومه، ونرمي بالأحزان جانباً لو استطعنا، أو بقدر ما نستطيع.. فأيام البهجة أصبحت قليلة لكثرة ما أصابنا من حروب، وجروح، وضائقات معيشية، وهي، أي هذه الأيام، تمر سريعة لكنها تصر في مرورها على أن تأتي لنا بنبض فرح تختلج له القلوب.
ودمشق العامرة بأهلها منذ ألوف السنين كأقدم عاصمة مأهولة في الدنيا قد رسمت لها نموذجاً من التقاليد، والعادات لكل مناسبة تحتفي بها، أو عيد يهل عليها، حالها معه كحالها مع ما ازدهر فيها من مهن، وصناعات تقليدية اختصت بها تلك المدينة دون غيرها وهي تبرق في النور كما السيف الدمشقي الذي يسبق اسمه جسمه.. وكما قماش (البروكار) المغزول ببراعة بخيوط الذهب، والفضة.
وخصوصية تقاليد دمشق لا تخطئها العين وهي ترى إلى انشغال البيوت الدمشقية بإعداد حلوى العيد، وكأن صنعتها المنزلية تضيف لها مذاقاً مميزاً، ومختلفاً مما لا يتوفر بما يؤتى به من السوق، أما البراعة في صنع تلك الحلوى فهي من مميزات البيت الدمشقي.
والصغار إذ يبتهجون بتلك الاستعدادات لاستقبال العيد إنما يتلهفون إلى موعد خروجهم مع أهاليهم لشراء الأحذية، والثياب الجديدة.. فترى الأسواق مزدهرة بالأضواء، والحركة لا تهدأ فيها حتى وقت متأخر من الليل، على مدى الأيام القليلة التي تفصل عن موعد هو للاحتفال، والابتهاج.
وإذا ما كانت صبيحة العيد استيقظ الناس مع الفجر ليستعدوا للصلاة، وشرفات بيوتهم قد زينت بزينات الأهلّة، والأضواء، وعبارات التهنئة بالعيد السعيد.. تلك الشرفات التي تتهامس أضواؤها بخفوت بين البيوت أن أفيقوا أيها الناس فقد لاح الفجر واقترب موعد صلاة العيد.. وإذا ما جاء الوقت سَمعتَ مآذن دمشق تصدح بالذكر بأصوات أجمل المنشدين، ليهرع المصلون إلى جانب المساجد إلى أماكن مكشوفة تعارفوا على أن يصلوا جماعة تحت سمائها صلاة العيد.
أما الجامع الأموي الكبير الذي يستقر في قلب القلب من دمشق القديمة وقد فُتحت أبوابه واسعاً للمصلين فإنه يكاد يغص بمن يقصدونه من كل مكان، وتكبيرات العيد تتعالى من جنباته. وإذا ما انقضت الصلاة، وانفض الجمع، توجه الدمشقيون وهم يحملون أغصان (الآس) لزيارة أحبائهم ممن رقدوا تحت التراب، وهم يدعون لهم بالرحمة، والجنات.
وتعود النفوس راضية مطمئنة، وما إن يصبح الوقت في الضحى أو بعده بقليل حتى تبدأ زيارات الأهل بين بعضهم بعضاً، وهم يصطحبون معهم صغارهم، وقد ابتهجوا بعد أن ارتدوا ثيابهم الجديدة، وبدوا في أحسن مظهر.. أجل هكذا يجب أن يكونوا ما داموا سيتلقون القبلات مسبوقة بالـ (عيديات)، والعيد لا يكون عيداً لدى الصغار إذا لم يتلقوا من الكبار، وخاصة الآباء، والأجداد منهم، والأقرباء تلك المبالغ الصغيرة التي يسمونها (العيدية) لتكتمل الفرحة بالتوجه إلى الأراجيح التي تنصب في الأحياء الشعبية والفوز باللهو والسرور، وشراء كل ما يرغبون به، ويشتهون في فرصة لا يتوفر مثلها إلا لمرات معدودة في العام ألا وهي أيام الأعياد.
تلك ذكريات تنبض في ذاكرة كل دمشقي، وكل من عاش في هذه المدينة الخالدة.. وتلك أعياد دمشق التي تأبى أن تنطفئ رغم مرارة الجراح.
لينا كيلاني
التاريخ: الجمعة 31-5-2019
الرقم: 16991