من ذاكـــــرةِ.. مقــــاتل.. لبسوا ابتساماتهم الأخيرة.. وعادوا إلى دفءِ التراب

علَّمتهم الحرب، أن الحياة صرخة كرامة، وبندقيَّة مقاومة.. كرامةٌ شريفة ومشرِّفة، وبندقيَّة تشظِّي برصاصها، عدو الأوطان وخائن أرضها وإنسانها.
علَّمتهم، أنّ «بعضَ المدنِ كأمَّهاتهنَّ.. الأمهات اللواتي يُشعلن البخورَ في المساء اعتقاداً، بأن دخانه سيُعمي عينَ القناص عن أولادهن».
علَّمتهم ماعلَّمته للمدرِّس «ياسر حسن». المقاتلُ الذي ومثلما أشهر سلاحهُ بيده دفاعاً عن أرضه.. أشهر أيضاً، ما في ذاكرته من صورٍ، لم يكن يدري بأنها ستسري يوماً في أبجديته، لتكتب بدمعِ الحكايا ودم الوطن.
«الحربُ مراهقةُ التاريخ.. تخبُّطه الطائش.. تململهُ من سياقهِ الهادئ الرتيب.. هي للبعضِ أخٌ غائب، أو أبٌ أو زوج.. وجهٌ يحفرُ نفقاً تحت طبقات الروح، يُخلخلُ ضجيجه سكونَ الكون.
هي للبعضِ ملايين وملايين، تضافُ الى رصيدٍ يكنزه فوق جثامين الشهداء وأحلام صغارهم، وهي للبعضِ الآخر، سنواتٌ طوالٌ من عمرهِ خسرها هدراً، حين ظنّ أنه الفارسُ الذي سيحمي اخضرار البلاد، فطعنه تكبّرُ المدنِ التي عشقها.. إذاً، لكلٍّ منا حربه التي لا تعني سواه.. حربُه التي ولدَ ليخوضها وحيداً»..
هكذا هي الحرب في ذاكرةِ هذا المقاتل. الحرب التي من شدَّة ماحمَّل ذاكرته نزيف صورها، غصَّت حتى المفردات التي استدعاها فروتْ وبألمها، حكايا رفاقه والمعارك التي خاضوها وجراحهم وآلامهم، وسواء الأحياء منهم، أو الراحلين الذين ارتقوا بعد أن جمعوا أحلامهم:
«جمعوا أحلامهم وأمنياتهم وصور من يحبون.. وضعوها على رفِّ الحياة، ولبسوا ابتساماتهم الأخيرة.. أطفأوا القناديل خلفهم، وبهدوءٍ موجع، عادوا إلى دفءِ التراب، بعد أن خذلتهم المعجزات الصغيرة».
إنهُ ما أسكنه في الوجع، وأسكن الوجع فيه، ما جعل ذاكرته غير مخصَّصة إلا لقصصِ الحرب الموجوعة فيها معانيه.. القصص، التي ولأنه لا يملك ترف نهاياتها، اضطرَّ لتجميلها بحنينٍ سرتْ ناره في كلماتها:
«لأننا لا نملكُ ترفَ النهاياتِ السعيدة، نُجمّل الحكايا بالحنين.. الحنينُ ذاكرة انتقائية، مثل بحارٍ قديمٍ يعرفُ أسماءَ المدن الغريبة.. ينتقي ما يليقُ به من ذكريات ليقول لها شكراً..
شكراً لرائحةِ البارود بعد انفجارٍ نجوتُ منه.. لصيحاتِ الرفاق.. لرصاصةٍ أخطأتْ جسدي.. للصورِ التي أحملها معي.. لشجرِ التوت.. للغيمِ فوقَ بيتنا القديم.. لأمي وأنا أضعُ قلبي خلسةً بين أطباقها، لعلّها تغسلهُ دونَ أن تنتبه.. لامرأةٍ قالت لي ذات يوم: لا تَخفْ يا بُني «أرى بعينِ قلبي، بأنك لن تموت».
كل ذلك، لم يمنع «حسن» من استدعاءِ الحياة مجسَّدةً بالهوى، والهوى لفحاتُ حبيبة.. لم يمنعه من القتال بشراسة، دفاعاً عن سوريَّة الحب والعقيدة.. يدافع عن كلِّ مافيها من جمالٍ يخلِّصهُ من البشاعة التي تحيط به، وبقوله الذي يسري منها إليه، وينبضُ به قلبه:
«حتماً، ستحتاجُ امرأةً تكونُ «مرآةً» لك.. تنظُرُ في عينيها لتتفحّصَ أناقتكَ.. تقفُ أمامها في الصباح، تنفضُ الغبارَ عن كُمِّ قميصك، تعيدُ تجليسَ قلبكَ في مكانه، ترشُّ لكَ عطراً من رائحةِ مخدّتها، تكوي قَبّة روحك، تُدوزن حبالَ صوتكَ على بحّة صوتها: «ها أنت جاهزٌ».. تفتح بابَ قلبها، أن أخرج إلى الحياة»..
هذا عن سوريته كما حبيبته، أما عن بقية النساء لديه، فإنهنَّ وحسبَ ما استدعاه من ذاكرته:
«بعضُ النساءِ تولدُ من حقولِ القصب، فتُمضي حياتها لاهثةً وراء الشمس.. بعضهنّ تولدُ من حلمِ جنديٍّ خائفٍ على المحرس، فتبقى متوجسةً من غدٍ بلا حبيب، تكنسُ آخرَ الليلِ بقايا الأحلامِ المشتهاة.
بعضهنَّ، لا يُلفظنْ بل يُحذفنَ من آخرِ القلبِ مثل حروفِ العلّة، وبعضهنّ يولدنَ من ارتطامِ الموج على صخرةٍ ما. إنهنَّ النزقاتُ اللواتي يخدشنَ جدارَ الليلِ بنحيبٍ على غيابٍ لم يأتِ بعد، وبعضهنّ يولدن من قلبي وعلى ورقةٍ بيضاء. يركضن بين السطور، ثم يتقافزنَ بخفةٍ فوق الخطوطِ المرسومة إلى أن يهربنَ خارجَ الدفتر..»..
تقفزُ المرأة خارج دفتره، فتعود إليه ذكريات حربٍ يتشهّى بألا تقهره.. تتدفق تداعياتها إلى روحه، فيتأمّل فيها قارئاً حتى أبسط اللحظات التي شاءت له الحياة ليبوح بجروحه:
«أن تبقى على قيدِ الحياة بعدَ كلّ تلك السنواتِ من الحرب، فهذا أمرٌ جيد. لكن عليكَ أن تتفحصَ مرونةَ روحك كلّ حين، هل تغريكَ التفاصيلُ البسيطة؟.
كنظرةِ أبيكَ وأنتَ ترتدي بزَّتك العسكريةَ، وكأن تجلس وحيداً.. تشمُّ رائحة الأرض بعد مطرِ المدينة، وبفرحٍ خفيفٍ بلا سبب.. أن تستيقظَ على دبيبٍ خفيف وأنتَ تتذكر حبيبةً تركتك، وكأنَّ في القلبِ وكرُ نملٍ كلّما ذُكر اسمها تجمّعَ على حلاوة الحروف.. أن تحنّ إلى أمّك وهي تجدلُ شَعرَ الصباح، وتضعُ في قلبكَ تفاحتين وعروسة زعتر.. أن تزورَ بيتَ صديقك الذي استشهدْ، تروي لابنه حكايات ما كانَ ليعرفها.. أن تسامحَ المدنَ التي حاربتَ لأجلها، لكنها خذلتك، وتنكرتْ لك»….

 

هفاف ميهوب
التاريخ: الجمعة 7-6-2019
الرقم: 16996

 

 

آخر الأخبار
٥٠ منشأة صناعية جديدة ستدخل طور الإنتاج قريباً في حمص الإعلام على رأس أولويات لقاء الوزير مصطفى والسفير القضاة وزير الإدارة المحلية والبيئة يوجه بإعادة دراسة تعرفة خطوط النقل الداخلي سجن سري في حمص يعكس حجم الإجرام في عهد الأسد المخلوع ميشيل أوباما: الأميركيون ليسوا مستعدين لأن تحكمهم امرأة لجنة السويداء تكسر الصمت: التحقيقات كانت حيادية دون ضغوط الضرب بيد من حديد.. "داعش" القوى المزعزعة للاستقرار السوري من الفيتو إلى الإعمار.. كيف تغيّرت مقاربة الصين تجاه دمشق؟ انفتاح على الشرق.. ماذا تعني أول زيارة رس... تفعيل المخابر والمكتبات المدرسية.. ركيزة لتعليم عصري 2.5 مليار يورو لدعم سوريا.. أوروبا تتحرك في أول مؤتمر داخل دمشق مغترب يستثمر 15 مليون دولار لتأهيل جيل جديد من الفنيين بعد زيارة الشيباني.. ماذا يعني انفتاح بريطانيا الكامل على سوريا؟ فيدان: ننتظر تقدّم محادثات دمشق و"قسد" ونستعد لاجتماع ثلاثي مع واشنطن وفود روسية وتركية وأميركية إلى دمشق لمناقشة ملف الساحل وقانون "قيصر" رغم نقص التمويل.. الأمم المتحدة تؤكد مواصلة جهود الاستجابة الإنسانية بسوريا بين "داعش" و"قسد" وإسرائيل.. الملفات الأمنية ترسم ملامح المرحلة المقبلة المنطقة الصحية الأولى بجبلة.. نحو 70 ألف خدمة في تشرين الأول تفجير المزة.. هل حان وقت حصر السلاح بيد الدولة؟ عودة محطة بانياس.. دفعة قوية للكهرباء واستقرار الشبكة نحو شوارع أكثر نظافة.. خطوات جديدة في حلب