الأمم والشعوب صغيرها وكبيرها تتعرض لأزمات وتحديات كبرى عبر مسارها التاريخي، فيشكل ذلك مجالاً لاختبار أصالتها وقوة شعوبها وبالقدر نفسه هي امتحان لأبنائها ومعادنهم ووطنيتهم وحقيقة انتمائهم، ولعل الحرب المركبة التي واجهتها سورية خلال سنوات ثمان مضت بكل ما حملته من آلام ونزيف دماء مثلت تحدياً حقيقياً للروح الوطنية والانتماء الوطني للسوريين فقد أثبتت للجميع أن الشعب السوري يملك من القوة والشجاعة والصبر والتضحية والإيمان والتماسك والثبات على المبادئ وإرادة التحدي الشيء الكثير ما مكنه من الصمود والمواجهة على الرغم من وطأة الأحداث وجلل الخطب وثقل التبعات.
وعند الحديث عن الوطنية والمواطنة فإن أول ما يواجه الباحث والمحلل لظروف الأزمة وتداعياتها السؤال المحوري عن معنى الوطنية وحضورها في كل ما تمت الإشارة إليه وهنا يصبح للوطنية والمواطنة معنى مركب ومفهوم جامع مانع يتجلى ويبرز في عناوين ومفاهيم وسلوكيات على درجة من الأهمية وفي خط تصاعدي قد لا يدرك من يمارسها دلالاتها البعيدة ومعانيها عند وضعها في سياقها العام وهنا يتسع المفهوم بشكل عمودي وأفقي ليكون رأسه التضحية بالنفس وقاعدته تفاصيل صغيرة ولنكن أكثر دقة يمكننا القول إن الوطنية في الأزمات ليست كلاماً أو خطاباً يجري على لسان هذا الشخص أو ذاك -على أهمية الخطاب بالمعنى المعرفي -ولكنها سلوك وعمل وتضحية وإذا كانت خطاباً بالمعنى الذي أشرنا إليه فترجمته وقيمته بتحوله إلى سلوك وموقف واضح لا لبس فيه.
إن أخطر وأسوأ أشكال الاستثمار هو الاستثمار في الأزمات وهذا المعيار ينطبق على الجميع التاجر والموظف والسياسي والإعلامي والمثقف ورجل الدين وغيرهم من شرائح المجتمع وهنا تصبح الوطنية هي النقيض لذلك فالمثقف والإعلامي والسياسي الذي يجد في الأزمة فرصة للمتاجرة بموقفه أملاً بمغنم لا يقل سوءاً ولا وطنية عن التاجر الذي يحتكر بضاعته لجهة تحقيق قدر من الربح غير آبه بما يسببه من معاناة ونزيف لوطنه وأبناء جلدته، وكذلك هو شأن الموظف والمسؤول الذي يجد في الأزمة فرصة أو مشجباً يعلق عليه عرقلته لقضايا المواطنين وحاجاتهم ومطالبهم بهدف ابتزازهم واستغلال مناخ الأزمة لتحقيق مصالح شخصية ضيقة وهنا علينا الإشارة أيضاً وبالمعنى ذاته للمواطن الذي يستغل ظروف الأزمة وأولوياتها ليخالف القوانين والأنظمة ويضرب بها عرض الحائط وما لذلك من تداعيات وآثار سلبية على النظام العام وهيبة السلطة واعتداء غير مباشر على حقوق غيره من المواطنين الذين يحترمون القوانين.
إن الوطنية والمواطنة في ظروف الأزمة مفهوم ترجح فيها كفة الواجبات على الحقوق بشكل كبير لا بل إن بعض الحقوق الشخصية تتحول إلى واجب عام وهنا يمكننا أن نعرض بعض الأمثلة على ذلك فإذا كان من حق المواطن على الدولة تأمين حمايته وحياته في الظرف العادية، فعلى المواطن في ظروف الأزمة أن يتحول إلى عين تحرس الوطن ودم يحميه ويضحي في سبيله، فأمن الدولة ليس جهازاً وظيفياً وإنما هو حالة انتماء وحس وطني يجب أن يكون واجب الجميع لا وظيفة هذا الشخص أو ذاك أو هذه الجهة أو تلك وهذه من وجهة نظرنا مسألة في غاية الأهمية وحالة ثقافية يجب أن تتحول إلى سلوك عام تشتغل عليه وتكرسه كافة المؤسسات الوطنية من إعلامية وثقافية ودينية وتربوية ومجتمعية وغيرها من وسائل التثقيف العام.
كما أن الوطنية بالمقابل ليست قبعة يضعها هذا الشخص أو ذاك أو هذه الجهة أو تلك على رأس أحد إنها سلوك وموقف وتضحية تنتسب إلى فاعليها إنها تعمل ولا تتكلم فقط.
khalaf.almuftah@gmail.com
خلف علي المفتاح
التاريخ: الاثنين 15-7-2019
الرقم: 17024