يتساءل الكثيرون عن أسباب تأخير معركة تحرير إدلب من الإرهابيين وجيوبهم التي كانت قاب قوسين أو أدنى، بعد أن اكتملت جهوزية الجيش العربي السوري عدة وعتاداً وتخطيطاً منذ الخريف الماضي، وهذه تساؤلات مشروعة وتأتي في إطار التحرير الناجز لكامل التراب السوري سواء في إدلب أم في شرقي الفرات، وهو الهدف الذي لا رجعة عنه مهما كانت الظروف، وتساؤلات من هذا النوع تأخذ في الاعتبار خطة إعادة إعمار سورية التي بدأت بالفعل، وكل دول العالم تسعى للمشاركة في هذه العملية ومنها من وافقت عليه سورية بشروطها. والمراقبون يعرفون أن أسباب هذا التأخير يكمن في أن الحليف الروسي يرى أن عملية بهذا الحجم ترافقها مخاطر عدة منها التدخل الأميركي الذي بدأ باستخدام ذرائع الكيماوي، وما فيه من تداعيات تتطلب تحشيداً لكافة الطاقات، الأمر الذي يتطلب خيارات أخرى تؤمّن هدف سورية وتهيئ الظروف لبقاء روسيا في الصف الأول بين القوى الدولية الفاعلة والمؤثرة، إضافة إلى تجنّب التحرير بالعمل العسكري الحاسم، وهو ذو أكلاف عالية بشرية أو في البنية التحتية، والقيام بعملية متدرّجة كمناورة على تركيا، ومن هنا استبقت روسيا التحرير باتفاق سوتشي ليكون بديلآ مرحليآ يوطيء للعمل العسكري في بيئة وظروف مختلفة .
لقد أدركت تركيا اللاعب الزئبقي أن روسيا بحاجة إليها في هذه المرحلة ولذلك وقعت الاتفاق لكن مع نية الانقلاب عليه في الوقت الذي يناسبها منتظرة تغيرات دولية وإقليمية، وهذا الغدر التركي ليس بخافٍ على روسيا لكنها امتنعت عن مواجهتها مراهنة على إعادتها إلى الاتفاق بسبب مصالح استراتيجية توفرها الظروف الحالية، حيث تراجع إن لم نقل انتهى مشروعها الاقليمي (الإخوان المسلمين) وتعيش حالياً شبه عزلة عن محيطها ما عدا قطر وعلاقات باردة مع أوروبا والعالم وهذه فرصة لروسيا لتجميد موقعها في الحلف الأطلسي وتحييدها في الصراع بين الشرق والغرب، بهدف إحداث انقلاب استراتيجي في العلاقات الدولية بل ومستقبل النظام العالمي برمّته.
في هذه الفترة يقوم الإرهابيون وبدعم تركي لجرّ الجيش السوري إلى حرب استنزاف في أرياف حماة وحلب وإدلب، لحرفه وإشغاله عن عملية التحرير. لكن سورية ما زالت تؤكد استقلالية قرارها متبعة أولويات عسكرية وإمكانات ميدانية ومراعية للظروف الإقليمية والدولية، ولذلك اعتمدت استراتيجية مركبة تعتمد على استمرارية الحركة الميدانية لتجنب حرب استنزاف تطيل أمد الحرب -وهذا هو الهدف الأميركي-، لا بل هي التي تجر التجمّعات الإرهابية إلى حرب تفككها وتضعفها وتشتّت قواها وتدمّر مراكزها النارية والقيادية لمنعها من شنّ عمليات عسكرية واسعة للوصول إلى تحرير الأرض بالقضم المتتابع المتدرّج وإنتاج بيئة عملانية ملائمة لإطلاق عملية التحرير النهائية والأخذ في الاعتبار وهذا هو الأهم، تجنيب المدنيين وتوفير مخارج لهم للانتقال إلى أماكن أخرى.
إن كل المؤشرات تشير إلى أن مطلع أيلول المقبل سيكون تاريخاً للخيارات الاستراتيجية المهمة.
فإما أن تتكيف دول العدوان مع الإرادة السورية – وهنا لا ننسى الموقف الإيراني من العقوبات الاقتصادية والذي يتجه إلى التفاوض رغم كل ما تقوم به أميركا لتضييق الخناق عليها – أو التصعيد والمواجهة التي ستكون منطقة الخليج ساحة لها، وهذا مستبعد لأنه سيجر العالم إلى حرب شاملة لن تكون أميركا وحلفؤها قادرين عليها وليس بإمكان أحد احتمالها.
هذه هي استراتيجية الصبر والقضم المتتابع والتفكيك التي تتبعها سورية وفي النهاية لا بد من تحرير ليس فقط إدلب بل شرقي الفرات وكامل الأرض السورية.
وإن غداً لناظره قريب…
د. عبد الحميد دشتي
التاريخ: الثلاثاء 16-7-2019
رقم العدد : 17025