عاد رأس النظام التركي إلى تهديداته السابقة في سورية متوعداً بشن عملية عسكرية في منطقة الجزيرة السورية لإنشاء «المنطقة الآمنة» المزعومة ــ حسب مسمياته ــ وذلك في مواجهة من يتهمهم بالخطر الكبير على الأمن القومي التركي المزعوم قاصداً بذلك الانفصاليين الأكراد الذين تحولوا في خضم الحرب على سورية إلى مجرد مرتزقة يعملون من ضمن الأجندات الأميركية الاستعمارية، وهم ينضوون تحت اسمي «قسد» و»وحدات الحماية الكردية»، مستحضراً بذلك أطماعه التوسعية وأجنداته الإخوانية المعروفة في سورية والتي تتخذ نفس الذرائع لاستعادة «أمجادط السلطنة العثمانية البائدة.
فعلى وقع سلسلة علاقاته المتأزمة في الإقليم وإخفاقات سياسته الداخلية وانهيار شعبيته وتعرّض حزبه لأقسى الخسارات في الانتخابات البلدية المعادة في اسطنبول، استعاد رأس النظام التركي رجب أردوغان مجدداً اجترار مصطلح أو مفهوم «المنطقة الآمنة» على الحدود مع سورية، في محاولة منه لحجز مكان له في منطقة الجزيرة السورية جنباً إلى جنب مع حلفائه في حلف الناتو الأميركيين والفرنسيين، ولا سيما بعد أن وصل إلى حائط مسدود في عملية ابتزاز الدول الغربية بشأن المسائل المتعلقة بقضية «اللاجئين السوريين» وتفرّعاتها.
وفي آخر تخرصاته الإعلامية ادعى أردوغان أن بلاده أبلغت روسيا شريكة مسار آستنة والولايات المتحدة حليفته في الناتو بخصوص العملية المرتقبة في الجزيرة السورية، كما اعتبر أن العملية ستجري في سياق العمليات العسكرية التي جرت في الباب وعفرين وجرابلس بريف حلب الشمالي في السنتين الماضيتين، ما يطرح تساؤلات عديدة حول مستقبل العلاقة بين أنقرة وواشنطن في ظل الدعم الأميركي المعلن للمليشيات الكردية المصنفة بنظر أردوغان إرهابيةً من جهة، وبين أنقرة وموسكو في ظل دعم الأخيرة لوحدة وسلامة الأراضي السورية من جهة أخرى.
المعطيات الواردة من الأراضي التركية تؤكد قيام الجيش التركي بحشد قواته استعداداً لهذه العملية التي سيسبقها مشاورات جديدة بين الجانبين الأميركي والتركي على نية الاتفاق حول حدود العملية وأبعادها، حيث لا تزال نقطة الخلاف بينهما حول عمق ومساحة المنطقة الآمنة التي كان الرئيس الأميركي دونالد ترامب قد وافق عليها سابقاً إبان قرار انسحابه المؤجل من الأراضي السورية ثم عاد ووضع شروطاً جديدة على تركيا بخصوص العملية تتعلق بعمق «المنطقة الآمنة».
من حيث المبدأ لا خلاف أميركي تركي ــ كما قلنا ــ حول إقامة هذه المنطقة فالطرفان شريكان بالعدوان على سورية ووجود قواتهما فيها يعتبر اعتداءً سافراً وغير مبرر على سيادة دولة أخرى مستقلة، وكل يدّعي محاربة الإرهاب على طريقته والغريب في الأمر أن واشنطن تدعم الأكراد الذين تصفهم أمقرة بالإرهابيين، في حين دعم النظام التركي داعش وساعدها في بيع النفط السوري المسروق في الوقت الذي كانت واشنطن تدّعي أنها تحارب داعش، اليوم الخلافات بين تركيا وواشنطن عميقة بسبب، العقوبات التي فرضها ترامب على نظام أردوغان في حين كانت صفقة صواريخ «s400» التي وقّعتها تركيا مع روسيا مؤخراً أشبه بالقشة التي قصمت ظهر البعير، وهو ما وسع الخلاف بين الطرفين، ويبدو أن صراع المصالح الأميركية التركية في هذه المنطقة سيكون العنوان القادم لمستقبل العلاقة بينهما لجهة البقاء في التحالف الأطلسي أو الافتراق.
وفي العموم وقياساً بالتقلبات والخدع التي مارسها أردوغان خلال سنوات الحرب على سورية لا يمكن أن نصدق أن تركيا الدولة الأطلسية القديمة ومخلب القط الأطلسي لزمن طويل في المنطقة، يمكن أن تضع نفسها في مواجهة مباشرة مع الولايات المتحدة الأميركية وهي الدولة الأكبر في الحلف ولها قواعد عسكرية ضخمة وأسلحة نووية في تركيا، أو أن تتحداها بخصوص مصير مرتزقتها في مليشيا قسد، إلا إذا كان الأميركيون قد قرروا فعلاً أن يبيعوا مرتزقتهم ومليشياتهم لأردوغان، مقابل ثمن يدفعه الأخير لواشنطن، وقد يكون ثمن الصفقة المحتملة هو استمرار نظام أردوغان بدعم الجماعات الإرهابية القاعدية المنتشرة في أرياف حماة وإدلب واللاذقية وحلب لإشغال الدولة السورية وحلفائها واستنزاف قدراتهم على هذه الجبهات، للحيلولة دون قيام سورية وحلفائها بحشد قواتهم لتحرير منطقة الجزيرة السورية مما تبقى من داعش ومليشيات غير شرعية واستعادة السيادة عليها بعد إجلاء القوات الأميركية والقوات الأخرى المتحالفة معها.
لقد كشفت لنا سنوات الحرب على سورية عن شخصية أردوغانية غاية في المكيافيلية السياسية والانحطاط الأخلاقي لجهة تعاطيه مع الداخل التركي ودول الإقليم، وكذلك في تعاطيه مع ملف اللاجئين والحرب على الإرهاب، وقد بدا أردوغان أشبه بمهرج على حلبة سيرك في المنطقة مع قدرة كبيرة على الرقص على مختلف الحبال السياسية بعيداً عن الأخلاق والتفاهمات والاتفاقات الدولية، وساعده في ذلك الموقع الاستراتيجي المهم لبلاده وحاجة كل طرف من الأطراف الدولية المؤثرة لتركيا في إطار أجنداتها ومخططاتها، والرغبة في الاستفادة من المزايا التي تتمتع بها تركيا على مستوى الإقليم.
ولكن رغم هذه المعطيات والسياق الأردوغاني الغوغائي إلا أن ذلك لا يمنع من وجود سياق آخر أو احتمال ضعيف بأن يلجأ النظام التركي لتنفيذ تهديداته بخصوص العملية العسكرية المنتظرة ضد مليشيات قسد في الجزيرة السورية على أمل أن يقتسم مع الولايات المتحدة كعكة المصالح في هذه المنطقة، وبالتالي التضحية أميركياً بمرتزقة قسد كما ضحّت بداعش قبل ذلك، وهذا ما يفسر اللقاءات الكثيرة والمستمرة بين العسكريين الأميركيين والأتراك للاتفاق على حجم التدخل وأهدافه ومساحته وتوقيته، ويشجعهما على ذلك أن الخسائر ستكون من السوريين حكماً، إذا يقاتل أردوغان بمرتزقة وفصائل إرهابية بعضها من السوريين في حين تقاتل واشنطن بالمرتزقة والمنضوين تحت ما يسمى «قسد» ووحدات الحماية الكردية ممن وضعوا أنفسهم بكل سذاجة في خدمة الأجندات الأميركية على حساب انتمائهم الوطني، وبالتالي فإن الصراع المنتظر سيكون بكامله على الأرض السورية، كما جرت حرب واشنطن المزيفة ضد داعش على الأراضي السورية والعراقية، وكان من نتيجتها دمار مدن سورية وعراقية مثل الرقة والبصرة وقتل عشرات آلاف الأبرياء في البلدين دون وجه حق، في حين لا يزال التنظيم الإرهابي الاستخباراتي «داعش» قيد الاستخدام وينفذ عملياته الإرهابية بإيعازات أميركية سواء داخل سورية والعراق أم في مناطق أخرى لخدمة الأجندات الأميركية.
يذكر أن تركيا هددت في الأسابيع الأخيرة، أكثر من مرة، بشنّ عملية عسكرية في الجزيرة السورية من أجل إقامة ما يسمى «المنطقة الآمنة» ولكن تم التراجع عن ذلك بعد لقاءات بين مسؤولين أميركيين وأتراك.
عبد الحليم سعود
التاريخ: الثلاثاء 6-8-2019
رقم العدد : 17042