الملحق الثقافي:حاتم حميد محسن:
يجب على النظرية العلمية:
1- أن تقدم توضيحاً متماسكاً منطقياً؛
2- أن تكون مدعومة بالدليل؛
3- أن تكون مفيدة.
إذا كنت تؤمن بأن واحدة من الصفات الثلاث أعلاه هي خاصية معرّفة للعلم، فأنت بالتعبير الفلسفي، إما:
1- واقعي أو 2- تجريبي أو 3- برجماتي.
وإذا صادف أن تكون عالِماً، فمن المحتمل أن يكون اهتمامك الرئيسي، إما:
1- نظري 2- أو تجريبي 3- أو ذرائعي (أداتي). وبشكل عام أنت ربما تحب فقط:
1- أن تكون لديك فكرة عن الكيفية التي يعمل بها الشيء؛ أو
2- اكتشاف كيفية عمل الشيء؛ أو
3- فقط لتجعله يعمل.
عندما يقوم فلاسفة العلوم بتأدية عملهم، فإن الشيء الأساسي الذي يأخذونه بالاعتبار هو أي مزيج من العناصر أعلاه يجعل الفعالية علمية. الموضوع ليس شديد الصعوبة، هناك فقط ثلاثة متغيرات. بدلاً من التفكير بعبارات من الأفكار المطلقة، يمكن بسهولة تقليد العديد من فلاسفة العلوم والنظر إلى أمثلة من التاريخ. قصة الجاذبية هي مثال مفيد عن تطور الفهم العلمي، لأنها شيء نلمسه جميعاً، يستلزم العلم بها جميع النقاط أعلاه مع أنها لاتزال أسطورة.
هناك قصة بسيطة عن الكيفية التي تطورت بها الأفكار حول الجاذبية حتى القرن العشرين بدءاً من أرسطو مروراً بغاليلو ونيوتن حتى آينشتاين، وذلك عبر مسار بدأ في التوضيح ثم البرهنة ثم على شكل معادلات مفيدة.
أرسطو (384-322 ق.م)
إذا كانت مدة الاستخدام هي المقياس لصلاحية النظرية، فإن نظرية الجاذبية الأكثر نجاحاً هي تلك التي عرض أرسطو توضيحاً لها. واحدة من بين تلك الأفكار ترتكز على سلوك العناصر الأربعة اليونانية وهي الأرض والماء والهواء والنار (أضاف أرسطو عنصراً خامساً وهو الأثير).
جميعنا نعرف أن الأحجار تغطس في الماء وأن فقاعات الهواء تصعد إلى السطح، والدخان يقفز إلى الأعلى، لأننا شاهدنا الدليل على ذلك. أرسطو أوضح بأن طبيعة مختلف العناصر تبحث عن مكانها الطبيعي: الأرض والماء يتحركان نزولاً، الهواء والنار يتحركان صعوداً. بكلمة أخرى، هناك شيء ما حول العناصر يجعلها تتحرك بالطريقة التي تقوم بها. ولكن هل تسميتها «طبيعة» يجعلها علماً؟
أرسطو ذهب ليطرح ادّعاء كمياً بدائياً: المزيد من الطبيعة المعينة التي يحتوي عليها الشيء (مصنوع من المزيد من الأرض والهواء) يعني الأسرع أو الأبطأ في السقوط. بكلمة أخرى، إن سرعة السقوط هي تناسبية مع الكتلة. هذه فرضية يمكن قياسها بسهولة، ومن المفيد معرفة إن كانت صحيحة. لذا هل ذلك يجعلها علماً؟ أرسطو لم يختبر الفكرة أبداً.
ما اعتقد به أرسطو حقيقة وبشكل أدق، هو أن العناصر الأرضية تتحرك نحو أو بعيداً عن مركز الكون، وإن الأرض تكون في الوسط. طالما أن الأرض وصلت سلفاً إلى مكانها المقصود، فإن أرسطو يجادل بأن الأرض لم تكن تتحرك. دليله على هذا الادّعاء هو أنك عندما ترمي صخرة فهي تسقط عند قدميك. إذا كانت الأرض تتحرك كان يجب للصخرة أن تسقط بعيداً عنك، لأن الأرض تكون قد تحركت أثناء الوقت الذي استغرقته الصخرة في السقوط. توضيحه لماذا الشمس والقمر والكواكب والنجوم تتحرك حول الأرض، هو لأنها وُضعت في سلسلة من الأفلاك متحدة المركز تدور حول محور يمر عبر النجم القطبي. الأفلاك صُنعت من الأثير وهو العنصر الخامس وهو يختلف عن العناصر الأخرى في كونه يتحرك دائرياً. وهكذا يوضح أرسطو أن هناك فقط نوعين من الحركة الأساسية هما الخطية والدائرية. كل حركة يمكن وصفها كمجموعة مركبة من هذين الاثنين، وبما أن الأرض والماء والهواء والنار كلها تتحرك بخطوط مستقيمة، فيجب أن يكون هناك عنصر يتحرك دائرياً.
أن الأسس المعتمدة أعلاه هي ضعيفة، ولكن لو قبلنا بها، فهي توضيحات منسجمة منطقياً. بطليموس قام بتطوير أنموذج أرسطو إلى وصف رياضي نجح في التنبؤ بمواقع الأجرام السماوية. لذا نال الدعم بالدليل، وإذا كانت مواقع النجوم هامة لأغراض الملاحة أو الاحتفالات الدينية، فسيكون الأنموذج مفيد أيضاً.
الآن نحن ندرك عملياً أن كل ما قاله أرسطو حول الجاذبية هو غير صحيح، لكن توضيحاته ككل بقيت ذات معنى كبير، واستمرت تقاوم التحديات طوال ألفي سنة. في القرن اللاحق لأرسطو، جادل الفلكي اليوناني أريستارشوس بأن الشمس وليس الأرض هي مركز الكون، لكن هذه الفكرة لم تُراجع بالكامل حتى مجيء كوبرنيكوس في القرن السادس عشر الميلادي. وبهذا النصر جرى أيضاً تجاهل توضيحات أرسطو في الجاذبية. إذا كانت الأرض تتحرك، وهي ليست في المركز، عندئذ فإن توضيحات أرسطو لسبب سقوط الأحجار نزولاً، أو لماذا تسقط أساساً، يجب أن تكون خاطئة ولا بد من توضيح جديد.
بعد وفاة كوبرنيكوس انتقلت مسؤولية نشر كتابه (حول ثورات الأجرام السماوية، 1543) إلى أندريه أوساندر Andreas osiander. أوساندر أضاف مقدمة جادل فيها أن مختلف التوضيحات يمكن أن تنال الدعم من نفس الدليل. لا يهم ما إذا كان الناس يختارون التوضيحات الأكثر إقناعاً لهم أو التي يجدونها أكثر فائدة للعمل بها. وكما ذكر اأساندر «إذا كانت التوضيحات توفر حسابات منسجمة مع الملاحظات، ذلك وحده يكفي». ورغم أن رياضيات كوبرنيكوس لم تكن كتلك التي طورها بطليموس لكن قسماً منها كان يسهل العمل بها. لذا فإن بعض الرياضيين والفلكيين تبنّوا أنموذج كوبرنيكوس، ليس بسبب إيمانهم بتوضيح مركزية الشمس وإنما بسبب أنه كان مفيداً.
غاليلو (1564-1632)
هناك صورة رمزية وُضعت على برج بيزا في إيطاليا في بداية القرن السابع عشر، يظهر فيها غاليلو على قمة برج مائل، يرمي كرات حديدية مختلفة الأحجام لكي يثبت أنها تسقط في نفس السرعة.
عدد قليل من المؤرخين اعتقد حقاً أن غاليلو قام بتلك التجربة. غاليلو كان حائراً بالنتائج المربكة لإيمان أرسطو أن الأشياء الثقيلة تسقط أسرع من الأشياء الخفيفة. ماذا يحدث لو أن الشيء الثقيل والشيء الخفيف رُبطا مع بعضهما؟ من جهة، طبقاً لفلسفة أرسطو، الوزن الأثقل سوف يسقط أسرع، وطالما الأخف وزناً سوف يمسك الأثقل نحو الأعلى، فإن الحزمة سوف تُسحب بإحكام، وأن السرعة الكلية للسقوط يجب أن تكون شيئاً ما بين سرعة الوزنين على انفراد. من جهة أخرى، طالما الوزنان متحدان، فهما والحزمة شيء واحد مع وزن مركب، لذا فإن السرعة المركبة يجب أن تكون أسرع من السرعة الانفرادية. هاتان المحصلتان لا يمكن أن تكونا كلتاهما صحيحتين. رغم أن غاليلو ربما رمى أو لم يرم أوزاناً من البرج، هو بالفعل قام بهذا وسجل الكثير من التجارب لرمي مختلف الأوزان نحو الأسفل والتي تتعارض نتائجها بشكل قاطع مع ادّعاء أرسطو في أن الأكثر وزناً يساوي أكثر سرعة.
إن ملاحظات غاليلو التي استخدم بها التلسكوب لا تستبعد إمكانية أن تكون الأرض في المركز، لكنها بالفعل كشفت بوضوح أن الكون ليس كما وصفه أرسطو. اكتشاف غاليلو لأقمار المشتري، مثلاً، أظهر أن ليس كل شيء يدور حول الأرض.
نيوتن (1643-1727)
في 28 نوفمبر 1660 اعلنت مجموعة من الفلاسفة الطبيعيين في لندن عن تكوين «كلية لدعم التعليم الفيزيورياضي التجريبي». عندما سمع الملك شارلس الثاني بالخطة أعطى موافقته، وخلال سنتين صدر مرسوم بتأسيس الجمعية الملكية في لندن. شعار الجمعية كان «لا تأخذ بكلمات أي شخص»(1). في عام 1660 كانت عبارة «أي شخص» تعني أرسطو.
في عام 1687 نشرت الجمعية الملكية (المبادئ الرياضية للفلسفة الطبيعية) لأحد زملائها وهو اسحق نيوتن. في هذا الكتاب وصف نيوتن قانونه في الجاذبية الكونية. قصة سقوط التفاحة على رأس نيوتن لها نفس المصداقية التاريخية لسقوط كرات غاليلو من فوق برج بيزا. مع ذلك، أدرك نيوتن أن سبب سقوط الأحجار على الأرض هو نفس سبب دوران القمر حول الكواكب، ونفس سبب دوران الكواكب حول الشمس. بكلمة أخرى، لا توجد هناك قوتان بل قوة واحدة وهي قوة الجاذبية. الفيزيائيون يحبون البساطة، وهم عملياً يحبون القوى الموحدة. نيوتن أظهر أنه بدلاً من أن طبيعة الأرض تتحرك باتجاه المركز والهواء يتحرك بعيداً، فإن كل جسيم في الكون ينجذب إلى الآخر. وبهذا يمكننا نسيان أفلاك الأثير.
ورغم أن نيوتن وآخرين اعترفوا بأن هناك حاجة إلى مزيد من الدليل لتأكيد قانونه، لكن مع تقدم الزمن أصبح واضحاً أنه كان ناجحاً جداً في حساب مواقع الكواكب التي لم يُعرف منها في السابق سوى ستة. وبعد قرن، في عام 1781 اعترف وليم هيرشل William Herschel أن نقطة الضوء التي أخطأ الفلكيون القدماء في اعتبارها نجماً كانت كوكباً أسماه أورانوس. وفي عام 1845 حينما أكمل أورانوس معظم مداره كان واضحاً أنه لم يتصرف كما افترض قانون نيوتن. الرياضيون في باريس وكامبردج بدأوا بحساب الكتلة وموقع جسم آخر قد يكون مسؤولاً عن ذلك الانحراف. (جوهان غل) حدد كوكب نبتون الذي كما في أورانوس جرى اعتباره في السابق نجماً. لذا فإن فكرة نيوتن عن قوة الجاذبية أوضحت حركة الكواكب، أنها نالت الدعم بمزيد من الدليل وأنها طُبقت بنجاح في اكتشاف كوكب جديد. ولكن هل القول «هناك قوة» يختلف عن القول «هناك طبيعة؟ «قبل أن يجف الحبر من كتاب (المبادئ الرياضية للفلسفة الطبيعية) حتى بدأ الناس يشكون من أن نيوتن أدخل قوة بدون آلية: لأنه مع كل القوة التوضيحية لفكرة «قوة الجاذبية»، لم يكن هناك توضيح لكيفية عمل الجاذبية. معظم التحدي جاء من أتباع ديكارت (1596-1650). حيث كان ديكارت أيضاً مهتماً بحركة الكواكب لكن اهتمامه الرئيسي كان إعطاء توضيح للمدارات. هو قام بهذا عبر تشجيع فكرة الـ vortices أو الدوامات التي طبقاً لها يكون الفضاء مركب من مواد غازية صغيرة جداً تتحرك كالسائل. هذه تحوم حول الشمس بطريقة تشبه انجذاب الماء نحو ثقب صغير، وأنها بدورانها تسحب الكواكب معها. في عام 1713 عندما نشر نيوتن الطبعة الثانية من مبادئ الفلسفة الطبيعية، هو شعر مجبراً ليضيف مقالة سميت «تعليق عام» فيه تحدى مباشرة فكرة الدوامات. أشار نيوتن إلى أن مدارات المذنبات هي أيضاً شاذة ولا تنسجم مع الأنموذج: «ولذلك فإن الفضاءات السماوية التي من خلالها تتحرك الكواكب والمذنبات حرة و باستمرار وفي جميع الاتجاهات وبدون انخفاض ملحوظ في الحركة، هي خالية من أي سائل مادي». نيوتن تجاهل توضيح ديكارت حول عمل الجاذبية، وأرفق مقطعاً ذكر فيه «أنه لا يضع فرضيات» «أنا لا أعمل فرضيات». هو كتب : «ولكن حتى الآن أنا لم أكن قادراً على اكتشاف سبب هذه الخواص للجاذبية من ملاحظتي للظاهرة، وأنا لا أعمل فرضيات. لأنه كل ما لا يُستنتج من الظاهرة يسمى فرضية، والفرضية سواء كانت ميتافيزيقية أو مادية، سواء كانت ذات خواص أسطورية أو ميكانيكية، ليس لها مكان في الفلسفة التجريبية». يرى نيوتن أن التوضيحات حول كيفية عمل شيء ما ليس بالضرورة أن تكون علماً، طالما الأنموذج الرياضي يعطينا القوة لرسم وتنبؤ واستغلال بيئتنا، فإن مهمة الفيزياء تكون قد تمت. وكما يستنتج المقطع: «بالنسبة إلينا ذلك يكفي، أن الجاذبية توجد حقاً، وتعمل طبقاً للقوانين التي أوضحناها وهي مسؤولة عن كل حركات الاجسام السماوية». التوضيح لكيفية عملها ليس هاماً للعلم. وكما يذكر أوساندر، ما يهم هو هل تستطيع استعمال النظرية؟ نيوتن كان بإمكانه أن يسمي بسهولة قوة الجاذبية بـ «طبيعة»الجاذبية. الفرق الحقيقي بين «طبيعة» أرسطو و»قوة» نيوتن هي ليست في التوضيح؛ هي في النوعية وفي فائدة الرياضيات ووفرة الدليل عليها. ولكن إذا كانت الصحة هي معيار العلوم، عندئذ سوف نهمل نيوتن بالإضافة إلى أرسطو.
آينشتاين (1879-1955)
لم يكن اأورانوس الكوكب الوحيد الذي خرق قوانين نيوتن في الحركة. في الحقيقة كان Leverrier في اكتشافه لنبتون يعمل ومنذ عام 1840 لفهم أسباب حالات الشذوذ في كوكب عطارد. عندما جرى اختبار لتنبؤاته بملاحظة حركة عطارد في مواجهة الشمس في عام 1843 وجد أنها غير متطابقة، ولكن مع النجاحات في اكتشاف نبتون، عاد Leverrier إلى المشكلة مرة أخرى بهدف حساب الكتلة وموقع كوكب آخر قرب عطارد يمكنه توضيح السلوك غير المنتظم لعطارد. هو كان شديد الثقة لدرجة اعطى الكوكب اسم فولكان أو إله النار. الفلكيون بدأوا يبحثون عن إله النار. البعض ادّعوا أنهم عثروا عليه: ولكن مع الفحص الدقيق ثبت أن كل الادعاءات لا أساس لها. لا وجود لإله النار.
توضيحات نيوتن لم يدعمها الدليل. لا بد من وجود شيء آخر هو الذي يسبب الخلل في الحساب. هناك أيضاً قصة أخرى، تتعلق بالكيفية التي اكتشف بها آينشتاين النسبية. في عام 1865 نشرت الجمعية الملكية نظرية ماكسويل (النظرية الديناميكية لحقل الكهرومغناطيسية). معادلات ماكسويل الأنيقة وصفت الكهرومغناطيسية كموجات تسافر في الفضاء بسرعة الضوء. لكن الموجة، كقاعدة، تحتاج إلى وسيط، الموجة في المحيط ليست موجة إذا لم يوجد هناك محيط. ومقابل نصيحة نيوتن، كان ماكسويل مستعداً لعرض توضيح: أن «الضوء والمغناطيسية هما تاثيرات لنفس المادة، وأن الضوء هو اضطراب الكترومغناطيسي انتشر طبقاً لقوانين الالكترومغناطيسية». المادة الافتراضية التي من خلالها تنتشر الموجات الضوئية – توضيح السلوك الملاحظ – اصبح يعرف بـ «الأثير ناقل الضوء» . على خلاف وسيط الجسيمات الدائرية التي اقترحها ديكارت، هذه يُعتقد أنها ثابتة، وشيء تتحرك من خلاله الأرض وجميع الأجسام السماوية : أكثر شبها بالضباب منه إلى الدوامات.
ومع افتراض ثبات سرعة الضوء خلال الأثير، وافتراض أن الأرض تتحرك من خلال الأثير فإن سرعة الضوء المقاسة هنا يجب أن تتغير اعتماداً على ما إذا كانت تتحرك في نفس الاتجاه كما على الأرض أو عمودية لها. في عام 1887 اثنان من الفيزيائيين الأمريكيين وهما آلبرت ميشلسن وإدوارد مورلي صمما تجربة حسية لمقارنة الوقت الذي يقطعه الضوء خلال مسارين متساويين بزوايا قائمة لكل منهما. هما توقعا أن يكونا قادرين على إثبات وجود الأثير وحساب سرعة واتجاه حركة الأرض خلاله. هما وجدا أن لا فرق في الوقت الذي يقطعه الضوء إلى المسارين. ذلك يعني إما أن الأرض ثابتة – وهو شيء غير صحيح، أو أن سرعة الضوء للمراقب على الأرض هي ذاتها بصرف النظر عن حركة الأرض.
الفيزيائيون طرحوا توضيحاً للكيفية التي يتسبب فيها الأثير- ناقل الضوء بمثل هذه النتائج المربكة. وفي عام 1905 وضع آينشتاين نظريته في النسبية. هو تخلى عن الأثير الناقل للضوء لصالح الفضاء الفارغ وعرض وصفاً رياضياً يتطابق تماماً مع الدليل: أن سرعة الضوء هي ذاتها لجميع المراقبين.
غير أن آينشتاين آمن برؤية مختلفة عن الفضاء عندما نشر النظرية العامة للنسبية عام 1915. النسبية العامة توضح الجاذبية بتصور أنه بدلاً من أن يكون الفضاء مجرد فراغ فهو وسيط ينحني بوجود الكتلة. آينشتاين لا يقدم فرضية لكيفية حدوث انحناء الكتلة للزمكان أكثر مما قدم نيوتن حول كيفية عمل الجاذبية. «انحناء الزمكان» هو توضيح للجاذبية بدون توضيح . ولكن مرة أخرى ذلك لا يهم لكي تكون النظرية مفيدة. وكما أوضح الدليل حالاً، المعادلات التي استنتجها آينشتاين هي أكثر دقة في التنبؤ بحركة الكواكب قياساً بقوانين نيوتن.
فلسفة العلوم
في عام 1919 وبعد الكسوف الشمسي الكلي قام الفلكيون البريطانيون بتجربة ثبت فيها أن الضوء القادم من النجوم ينحني بفعل جاذبية الشمس، وهو ما يؤكد صحة النظرية النسبية..في نفس الوقت كان كارل بوبر يحاضر في جامعة فيينا، وكان قد تأثر كثيراً بالتنبؤات التي طرحتها النظرية النسبية. كانت تنبؤات جريئة لأنها إذا لم يدعمها الدليل فالنظرية ستكون خاطئة. بوبر قرر أن هذه هي السمة المعرّفة للعلم: النظرية تُعتبر علمية فقط إذا أمكن من حيث المبدأ إظهار أنها كاذبة. طبقاً لهذه الرؤية فإن ادّعاء أرسطو بأن سرعة السقوط الحر التناسبية مع الكتلة سيكون ادّعاء علمياً، لأن تجربة بسيطة واحدة يمكن أن تقرر أن كان ذلك صحيحاً أم خاطئاً. غاليلو أظهر أن ذلك ليس صحيحاً. ولكن طبقاً لبوبر إنه لايزال ادّعاء علمياً، لأن الادّعاء الصحيح ليس سمة معرّفة للنظرية العلمية.
عندما كان بوبر يطور نظريته في التكذيب، كان العلماء سلفاً يشيرون إلى أن ذلك ليس ما يعملون به. البيولوجي Ludwik Fleck أدخل فكرة «الفكرة الجمعية» – مجموعة من العلماء يشاركون بنفس النظرية والتطبيق، وفي نفس الطريقة العلمية ويتعاونون لتطوير ذلك البحث إلى أقصى حدوده الممكنة. البروفيسور ميخائيل بولوني في الكيمياء عرض نقطة مشابهة. العلم حسب تجربته ليس طريقة موضوعية منفردة يمكن ببساطة تقديمها كوصفة واتّباعها، بل إن العلماء يضعون قيد التطبيق الفلسفة والطرق التي تعلّموها من العلماء الآخرين . أساساً، حالما يبدأ العلماء في التفكير الجماعي فهم يساهمون في ذلك المشترك. الفيزيائي ماكس بلانك يشبه آينشتاين فهو لم يقبل بالكامل تفسيرات ميكانيكا الكوانتم للعلماء الشباب، بل لاحظ أن «الحقائق العلمية الجديدة لا تنتصر بإقناع خصومها لأن خصومها بالنهاية يموتون ويظهر جيل جديد أكثر اطلاعاً على تلك الحقائق». لذا فإن البيولوجيون والكيميائيون والفيزيائيون البارزون كلهم يقولون في تجربتهم المهنية أن العلم لا يعمل مثلما يعتقد الفلاسفة كبوبر، ولا توجد هناك طريقة علمية واحدة، هناك العديد من الطرق. وفي عام 1962 نشر توماس كن Thomas Kuhn (1922-1996) كتابه (تركيب الثورات العلمية) الذي جعل الناس ينتبهون للاعتقاد المتزايد بأن العلم هو ليس المشروع الأصلي المنفرد الذي حاول وصفه الفلاسفة.
(تركيب تقدّم العلوم) الذي أشير إليه في كتاب (كن) له ثلاثة أجزاء. هناك فترة «ما قبل العلوم» فيها توجد بعض الخصائص في العالم ليس لها توضيحات علمية. الناس يتأملون ويقدمون مقترحات حتى يأتي مقترح يرى عدد كافي من العلماء أنه يستحق بذل الوقت والموارد للبحث فيه. بدلاً من تحطيم الفكرة، كما يرى بوبر، إذا كانت التجربة المصممة وفق هذا التوضيح تنتج نتائج تطابق النظرية، عندئذ سيتعاون العلماء لتعزيز الأنموذج الجديد Paradigm (الأنموذج هو النوع الشمولي للتوضيح المستخدم). إذا كان الأنموذج جيداً فهذه ستكون فترة بنّاءة لأنها تعطي العلماء إطاراً مفاهيمياً لاستكشاف القدرة على إثارة أسئلة لن تحدث خارج الأنموذج. حل اللغز هذا ضمن الأنموذج يسميه كن «العلم الطبيعي». ولكن مهما كان الأنموذج جيداً فنحن لا نعرف أبداً بأن اكتشافاً جديداً سوف لن يلقي به في عالم النسيان. ذلك حدث لأنموذج أرسطو في الطبيعة، وحدث لنيوتن، لا عالِم يضمن أن ذلك لا يحدث مع نماذجنا الحالية. عندما يحدث ذلك فالشيء المحتمل أولاً أن يحصل بعض الترقيع لحماية الأنموذج القديم من خلال دراسة تاريخ العلوم كما يرى كن. ولكن مع تراكم الشذوذ الذي سيُغرق الأنموذج القائم في أزمة، فإن أنموذجاً جديداً سيكون مطلوباً لتوضيح كل شيء في الأنموذج القديم إضافة إلى أشياء أخرى لم يستطع توضيحها، تماماً مثلما أوضحت النظرية النسبية سلوكاً معيناً لم توضحه جاذبية نيوتن.
Paul feyerabend (1924-1994) كان من بين أربعة أشخاص شكرهم (كن) في مقدمة كتابه تركيب الثورات العلمية. paul رفض أن يكون مساعد باحث لبوبر. هو بدأ عمله كفيزيائي وكان مؤهلاً لإصدار مثل ذلك الحكم. مثلما يوضح تاريخ الجاذبية، أن التوضيح، البرهنة، الفائدة جميعها لعبت دوراً حاسماً في العلوم. paul كان قلقاً من أن أي طريقة علمية اختزالية كطريقة بوبر سوف تستبعد جزءاً من ذلك التاريخ. لا أحد يحب أن يقال له ما يفكر أو يعمل، والعلماء ليسو ا استثناءً. بدلاً من ذلك، اعتقد paul أن الوصفة الوحيدة للعلوم التي يمكنها استيعاب كل عثرة وقفزة هي الفوضى الإبستيمولوجية(2). هو آمن بأن المعيار الأكثر أهمية للنظرية هي أن تكون مفيدة. يقول paul «استمعت إلى موعظة الفوضوي البروفيسور (وغنر) قائلاً: «بالتأكيد أنت لم تقرأ كل المخطوطات التي يرسلها الناس لك، أنت يجب أن تلقي أكثرها في سلة النفايات». يؤكد paul أنه فعلاً يقوم بذلك، إنه لا يقرأ كل الأوراق المكتوبة، أنا أعمل اختياري بطريقة فردية جداً وتفضيلية لأني لا يمكنني إزعاج نفسي بقراءة ما لا يهمني وأن اهتماماتي تتغير من أسبوع إلى آخر ومن يوم إلى آخر لأني مقتنع أن الإنسانية والعلم سيستفيد من الأعمال الخاصة لكل فرد «(ضد الطريقة، 1975). مهما يعتقد المرء أنه يجب أو لا يجب أن يكون مؤهلاً للعلوم، الحقيقة هي أن العلوم تتم من جانب الناس. بعض منهم عقلاني، والبعض الآخر تجريبي، بينما آخرون براغماتيون. لا يهم مهما كانت القواعد المفروضة فإن الناس سيخرقونها.
التاريخ: الثلاثاء20-8-2019
رقم العدد : 17051