أرشيل غوركي شاعر الرسم الفريد

الملحق الثقافي:د. محمود شاهين:

 يتناول كتاب (أرشيل غوركي) لمؤلفه (موسيس زيراني) ترجمة د. مانوك سيرايداريان، مسيرة فنان تشكيلي أرمني كانت له مساهمات كبيرة في تأسيس الاتجاه التعبيري التجريدي مع (جاكسون بولوك) وكان في عداد الفنانين (مواليد 1904) الذين انتسبوا إلى الحركة السورياليّة العام 1945. عاش غوركي حياة مضطربة مفعمة بالآلام، ما اضطره لوضع حد لحياته عام 1948 بشنق نفسه من سقف غرفته، بعد أن خط على جدارها عبارة (الوداع يا أحبائي).

 

 

يُشير الكتاب إلى أن حياة غوركي كانت قصيرة، إلا أنه كان وفير الإنتاج الفني، محققاً بهذه المعادلة حالة في اليقظة بسبب الخوف من الانطفاء والكبت النفسي، واستشراف المستقبل الغائم، وأراد تجنيب الإنسان الأفعال الدنيئة، وتمجيد الطبيعة والحياة، في سياق أزمته في أن يكون أو لا يكون، وإدراك التناقضات، والتبجيل غير المشوب للحياة والطبيعة والإحساس بجمال الحياة وروح التآزر المفرطة. لقد قام غوركي بالبحث عن الذات من خلال اللاشعور ليصل إلى جذوره العرقيّة، وإلى حقيقته التي كانت مقترنة بالفكرة الملحمية.
إن رغبة غوركي في اختراق الحقيقة الصعبة في أعماق الوجود الإنساني، تأتي (كما يقول الكتاب) من إيمان أجداده الطبيعيين بالإنسان، ومن قناعته بأن الوصول إلى المطلق اللامتناهي، أو حتى الاقتراب منه، يستدعي بالضرورة الاندماج بالماهيّة الداخلية للطبيعة والحياة. إن بحثه عن الحقيقة يعود إلى الوعي الذاتي الاثني، والتقدير الذاتي الاثني لديه، ولهذا كان الاعتلال النفسي الذي أصابه انعكاساً لتداعيات ذاكرته أكثر من كونه ناجماً عن حياته اليوميّة وبيئته.

حياته
ولد غوركي واسمه الأصلي (فوستانيك أتويان) في قرية (خوركوم) قرب مدينة (فان) في أرمينيا الغربية. في العام 1915 التجأ إلى ضاحية (غونت) في (بريفان) مع أقاربه، حيث توفيت والدته بسبب الفقر والبؤس. في تلك الأثناء كان والده قد استقر في الولايات المتحدة الأمريكيّة. في العام 1920 وصل إلى أمريكا، ولتمتعه بمواهب ومزايا مؤكدة في الرسم، فإنه دُعي العام 1922 إلى إحدى مدارس بوسطن كمعلم للفن. عام 1926 انتقل إلى نيويورك ليعيش مع عدد كبير من الفنانين البائسين، ويعكف على إنتاج الفن.
لازمت هذا الفنان المحن وسوء الحظ، لاسيّما في سنواته الخصبة، مما قاده إلى التشاؤم وفقدان الأمل. في العام 1946 أتى حريق على مرسمه، فقد حوالي أربعين لوحة من أعماله. وبعد شهر واحد من الحادثة، خضع لجراحة سرطانيّة، ونتيجة حادث سيارة، فقدت يده اليمنى مرونتها وقابليتها للحركة. بعد هذه المحنة، هجرته زوجته وأولاده، ثم قادته المصائب إلى الانتحار.

 

الفنان المعذب
يُشير الكتاب إلى أن غوركي كان من أولئك الفنانين القلائل الذين حينما يُبدعون يكون عقلهم وروحهم ويدهم في تناغم وانسجام تامين، وكان يردد أنه نتاج ثلاثة أفكار هي: الطهارة، العذاب، والنضوج، وقد أطلق على نفسه صفة (المرير) لأن فنه وليد العذاب والكرب، وكلما تقدم به شظف العيش، كلما تسامت ذكرياته، ورغم أن هذه الذكريات تقوم على تناقضات لا حد لها، إلا أن النضوج يفوق كل تلك التناقضات بهاءً، كبذرة تنبثق فناً فوق تربة ربيعيّة دافئة. لهذا لم يبق غوركي وفياً لمبدأ الذاكرة (وهي بذرة الفنان المثمرة) فحسب، بل سبر أغوار عقله الباطن ليصل إلى جذوره العرقيّة. إن رؤاه المختلفة، من ذكرياته عن مسقط رأسه، والمتصادمة مع نمط الحياة الأمريكي، إضافة إلى عقليته الشرقيّة في التوق إلى الماضي، تحققت على القماشة العذراء، ولهذا تُعتبر ثنائيته (الفنان وأمه) إيقونات فنه.
تتقاطع حياة غوركي مع حياة (بروميثيوس) في المرارة والكرب والعذاب، وهذا ما دفعه للرحيل إلى الماضي بمساعدة الذاكرة، كوسيلة للتخفيف من العبء الواقع على روحه المعذبة. لقد تخلص (بروميثيوس) من عذاباته بشكل ما، فقد كان واثقاً من خلوده، وكان ينتظر مخلّصه، ولكن غوركي (الذي اعتبره الرسامون الأمريكان سوريالياً قبل السورياليين) لم يكن أحد الآلهة، وبسبب عدم قدرته على الصمود ضد آلامه وعذاباته غير العاديّة، فقد وجد خلاصه في الموت.

التعبيرية والتجريدية
يُعتبر غوركي من أبرز ممثلي التيار التعبيري التجريدي في الفن التشكيلي الحديث، ويعتقد بأن للفن دوراً ضميرياً وتأملياً، وأن في داخل كل واحد منا (كما في الطبيعة نفسها) فراغاً نسعى لملئه بشكل مستمر حتى لا نبقى وحيدين. هكذا هو الأمر دائماً، وعلينا أن نقاوم بلا هوادة في أنفسنا الوحشة التي لا تُطاق.
يقول عنه الشاعر الفرنسي (بول إيلوار) بأنه نابض العين، وأول رسام، بالنسبة إليه، انكشف له السر. ويرى (ويليم دي كونينغ) بأنه يُشبه جبلاً من جليد تسعة أعشاره قابع في عمق المحيط، ولا يظهر منه سوى العشر، ولكن هذا الجزء الظاهر عظيم ورائع في بريقه. وبرأي رائد السورياليّة (أندريه بريتون) هو الوحيد في جيله الذي له طابعه الخاص الفريد، وفي تقديره أن غوركي هو الوحيد بين جميع الرسامين السورياليين، الذي يستطيع أن يتصل بالطبيعة مباشرة.
أما الدكتور محمود أمهز فيراه آخر كبار الفنانين الذين انتسبوا إلى الحركة السورياليّة، واعتبر بالتالي آخر كبار الفنانين السورياليين، لكن عدداً من مؤرخي الفن الحديث يرى فيه، مع ذلك، واحداً من رواد الفن الأمريكي المعاصر، وبطلاً أنموذجياً للتعبيريّة التجريديّة. والحقيقة إن فن غوركي برز في فترة انتقالية شهدت نهاية السورياليّة من جهة، وبداية الفن الأمريكي الحديث من جهة ثانية. لقد نشأ في وسط سوريالي، وضمن إطار السورياليّة، لكنه اكتسب صفات شخصيّة خاصة جعلته على صلة بالحركة الفنيّة الجديدة التي انطلقت بدورها (أقله في البداية) من معطيات سورياليّة.
ويذهب الرسامان الأمريكيان (جون غريهام) و(ويليم كوينينغ) إلى التأكيد، على أن غوركي كان سوريالياً قبل السورياليين، وهذا الكلام صحيح لأنه في أزمنة سابقة جداً لوجود غوركي، كانت السورياليّة موجودة في عالم قديم من الأساطير والميثولوجيا والملاحم. لقد قام غوركي بالبحث عن الذات من خلال اللاشعور ليصل إلى جذوره العرقيّة، وإلى حقيقته التي كانت متلاحمة بالفكرة الملحميّة.
والحقيقة أن أعمال غوركي سيل مستمر التدفق من العواطف المتولّدة أثناء الترحال النفسي في العالم الداخلي العميق للفكر، أو في المدارات العليا للكون، وكلما ذهبت ترحالاته النفسيّة في اتجاهات متعاكسة كأنها تدانت وترافقت في وقت لاحق، تماماً كعقارب الساعة التي تتباعد وهي في نفس النقطة. إن إبداعات غوركي النهائيّة مشبعة بالألم اللانهائي، وهي جلية بحيث لا نحتاج إلى أسماء وعناوين اللوحات لتفسير الألم والعذاب في أعماله. وفي هذا المجال فإن لوحة (الكبد هو عرف الديك) مثال حاد ومؤثر على ذلك.

التاريخ: الثلاثاء27-8-2019

رقم العدد : 17057

آخر الأخبار
وزير الطوارىء: نحن أبناء المخيّمات..نسعى لإعمار وطنٍ يُبنى بالعدل أوضاع المعتقلين وذوي الضحايا .. محور جولة هيئة العدالة الانتقالية بحلب بعد تحقيق لصحيفة الثورة.. محافظ حلب يحظر المفرقعات تخفيض الأرغفة في الربطة إلى 10 مع بقائها على وزنها وسعرها محافظة حلب تبحث تسهيل إجراءات مجموعات الحج والعمرة  جلسةٌ موسّعةٌ بين الرئيسين الشرع وبوتين لبحث تعزيز التعاون سوريا وروسيا.. شراكةٌ استراتيجيةٌ على أسس السيادة بتقنيات حديثة.. مستشفى الجامعة بحلب يطلق عمليات كيّ القلب الكهربائي بحضور وفد تركي.. جولة على واقع الاستثمار في "الشيخ نجار" بحلب أطباء الطوارئ والعناية المشددة في قلب المأزق الطارئ الصناعات البلاستيكية في حلب تحت ضغط منافسة المستوردة التجربة التركية تبتسم في "دمشق" 110.. رقم الأمل الجديد في منظومة الطوارئ الباحث مضر الأسعد:  نهج الدبلوماسية السورية التوازن في العلاقات 44.2 مليون متابع على مواقع التواصل .. حملة " السويداء منا وفينا" بين الإيجابي والسلبي ملامح العلاقة الجديدة بين سوريا وروسيا لقاء نوعي يجمع وزير الطوارئ وعدد من ذوي الإعاقة لتعزيز التواصل عنف المعلمين.. أثره النفسي على الطلاب وتجارب الأمهات عزيز موسى: زيارة الشرع لروسيا إعادة ضبط للعلاقات المعتصم كيلاني: زيارة الشرع إلى موسكو محطة مفصلية لإعادة تعريف العلاقة السورية- الروسية