عذرا أمهاتنا.. عذرا من دموعكن التي تحجرت.. عذرا من دماء شهدائنا المدنيين والعسكريين, عذرا من قمم اوطاننا التي انكسرت ومن أحلام أطفالنا التي هزمت ومن دفاتروأقلام ومقاعد مدارسهم التي تكسرت وتمزقت.. عذرا من شرقنا الى غربنا ومن جنوبنا لشمالنا.
حزن تسطر كألواح الخشب ثم تغطى بلوح من حديد وأغلق على النعش المسامير.. أغلق على الحزن المسامير لكنها مسامير اهتزت من مكانها وسال الحزن ثانية وثالثة وفي كل مرة كانت المسامير أكثر قوة.
لماذا تميتون الحزن؟ الحزن لايموت تحت التراب لأنه يعيش في قلوبهم وفي زغاريد استقبال شهدائهم.. ويعيش حزنا وفرحا معا بعد أن عادت حبات التراب سكرى بنشوة الدخول الى ارض كانت تبيع الخرز الملون والمرايا المضيئة بلون الشمس.
لن تفرح أمهاتنا بعودة التراب الذي لثم جسد أبنائها بل ستفرح لأنها تشم رائحته فيها ستبكي مطولا وكأنه رحل شهيدا للتو لكنها تسمع اليوم أجراس الكنائس تقرع ولن يقرعها أحدب انما يقرعها قلب مفعم بالحب رغم قسوة السنين التي هددت حياته.
محردة اليوم المدينة التي كانت محاطة بالخوف دون استسلام المدينة التي تقرع نواقيسها فتسمعها السقيلبية ومورك واللطامنة وكفر زيتا وتسمع صداها ارض شاسعة مهللة بالفرح القادم..
أليس غريبا أن يموت الشباب والأطفال والنساء وقصص الحب من أجل كمشة تراب؟ أليس التراب ترابا في أي مكان ان كنا في وطني اوكنا في اقصى العالم سنجد نفس التراب وذات المكونات وسنجد جبلا ووهدة وتلا وبحرا ونهرا في أي مكان سنجد الجغرافيا والتضاريس؟ لكن لأن الوطن هوالوطن الذي لاتكفيه عبارات الحب كي يصدق ولاتكفيه اساور الذهب ولا خلاخيل الفضة ولا بعروس ليلة القدر ولا برحلة على شاطئ البحر كطفل, لماذا لاينسى الوطن مهما ابتعدنا عنه؟ ولماذا نحمله في حقائب سفرنا ونتجول به ونعرض عليه كل الأوطان الاخرى فلا يعجبه شيء ولاتعجبه الا حاراته وازقته والياسمين الذي عرشه والجوري الذي قطفه, نتجول به فلا يرضى الا بالعودة يحزن ولا يرضى.
ياوطني الحدود هناك نار وبارود
لايرضى
ياوطني الفرح لن يعود اليه سنموت ولن نراه هناك
لايرضى
آه.. ياوطني سنموت تحت ثراه
وسندفن في مقابر شاسعة الابعاد
لكن الوطن كان مصرا على العودة:
سنعود لأن الفرح لن يعود الا معنا
آه.. لويتم تبادل الأوطان «كالراقصات في الملهى»
تلك أمنية وحلم تمناه الشاعر محمد الماغوط لم ينشأ عن عبث اوعن استهتار بقداسة الوطن, ولوكان كذلك لما مات على فرش قديم ووسادة خالية في وسط الشام ولم يكن ليترك لهذا الوطن وصية:
قولوا لوطني الصغير والجارح كالنمر
إنني أرفع سبابتي كتلميذ
طالباً الموت أوالرحيل
ولكن.. لي بذمته بضعة أناشيد عتيقة
من أيام الطفولة.. وأريدها الآن
لن أصعد قطاراً.. ولن أقول وداعاً
ما لم يُعِدها إليّ حرفاً حرفاً
ونقطة نقطة.. وإذا كان لا يريد أن يراني
أويأنف من مجادلتي أمام المارة
فليخاطبني من وراء جدار
ليضعها في صُرّة عتيقةٍ أمام عتبة
أووراء شجرة ما..
وأنا أهرع لالتقاطها كالكلب
ما دامت كلمة الحرية في لغتي
على هيئة كرسيٍّ صغير للإعدام
قولوا لهذا التابوت الممدد حتى شواطئ الأطلسي
إنني لا أملك ثمن المنديل لأرثيه
من ساحات الرجم في مكّه
إلى ساحات الرقص في غرناطه
جراح مكسوّةٌ بشعر الصدر
وأوسمة لم يبق منها سوى الخطافات
الصحارى خاليةٌ من الغربان
البساتين خاليةٌ من الزهور
السجون خاليةٌ من الاستغاثات
الأزقة خاليةٌ من المارّة.. لا شيء غير الغبار
يعلو ويهبط كثدي المصارع
فاهربي أيتها الغيوم.. فأرصفة الوطن
«لم تعد جديرةً حتى بالوحل»
ومع كل الوحل لانغير هذا الوطن ولا نبدل تبديلا
أيدا المولي
التاريخ: الأربعاء 28-8-2019
رقم العدد : 17058