لم يجد في عدد من جرائد الصباح أي خبر استهواه أو شدَّ انتباهه، كما لم يجد مبرراً أو عملاً يقوم به في البيت وحيداً، فغادر دون أن يكون مرتبطاً بأي موعد.
في ناصية الشارع الطويل الذي يخترق المدينة ويشطرها إلى جزءين, صادفه صديق قديم ومحب، قرأ وجهه وأدرك توتره، فسأله: زلَّ لسانه، وكان ينوي كتمان حاله.. اليوم أتمّ الخمسين من العمر.
– يوم ملائم جداً لأن تتزوج فوراً.
أضاف صديقه بإصرار: نصيحة صديق محب، دعنا نحتفي مساء بك.
رفض مندهشاً ومستنكراً وتساءل في ذاته (كيف أقضي هذا اليوم، ناهزت الخمسين إذاً، وهذا عام كامل يسرقه مني الزمن من عمر قصير)؟؟
سارا معاً جنباً إلى جنب نحو وسط المدينة، وقبل أن يفترقا. أعطاه صديقه قرصاً صغيراً: ابتلع هذا القرص إذا جافاك النوم ليلاً، لن يمضي عليك وقت طويل تنام بعدها، وقد تحلم أحلاماً سعيدة.
أخذه مبتسماً، ومضى وحيداً شاحباً. يتسكع دون غاية واضحة، لأكثر من ساعتين.
شعر فجأة بضيق داهمه، فوقف حائراً متردداً، ثم ما لبث أن اتجه نحو المقهى متوقعاً وجود عدد من الأصدقاء فيه، وهو يتوقع أيّ حديث سيتجاذبون أطرافه معه مسبقاً.
ستكون كل حكاية الحديث عن البنت التي حكى لهم عنها من قبل.. ولم يكن قد كوّن رأياً حاسماً فيها.
كان ذلك الحديث مفتوحاً دوماً بين الأصدقاء، ربّما هرباً من الحديث في السياسة وشؤون البلاد العربية وأزمات العالم. فشل في الاندماج معهم، طلب فنجان قهوة ثم ما لبث أن اكتشف أنه نسي ساعة يده في البيت.
فكر مرات بالانصراف.. وبقي يؤجله، إلى أن دوى في المكان صوت انفجار كبير، عرفوا وسط دهشتهم أن أسطوانة غاز منزلي انفجرت في بيت قرب المقهى، شاهدوا النيران تندلع من البيت، وسرعان ما أخمدها عمال الإطفاء الذين حضروا برجولة، ثمَّ تفرق شمل الأصدقاء.
قصد مطعماً في إحدى ضواحي المدينة.
حين وصل مشدوداً إلى صيف العام الماضي، ففي هذا المكان كان يتعشى مع صديقة تقربه في العمر، ذكية ولطيفة أبهرته في طلب المقبلات.
لم يمكث في المطعم طويلاً.. وجد نفسه صغيراً لوحده، فنهض مستقلاً سيارة أجرة إلى بيته.
انتابته قشعريرة ثقيلة. لم يرقْ له هواء الشقة التي يسكنها منذ بضعة أعوام. كانت الأشياء فيها رتيبة ومملة.
المرأة تضفي على البيت رائحة أفضل. يختلط فيها هواء الطبيعة ورائحتها ورائحة الطبخ أيضاً.
لماذا لم تشغله قضية الزواج كثيراً. وها هو العمر يمر غير آبه بأي قصة حب فاشلة!
«منى»، وحدها أوشك على الزواج منها، أحبّها وأحبّ خفة ظلِّها وعودها الرقيق، وعشق عينيها الواسعتين، وكانتا كعيني أميرة فرعونية، (أدرك الآن سرّ تعلقه بفتاته الجديدة، عيناها شبيهة بعيني منى).
لا.. لا، ثمة سوء فهم اعتراه، أدرك أنه وحيداً الآن في شقته، وها هو مأخوذ في حيرته، يتنقل من غرفة إلى غرفة ويقلب في أشياء الغرف ويتفحصها، دون أن يستهويه أي شيء، اتجه نحو الشرفة، ثم ما لبث أن رجع، يتحرك ببطء، ويشرد في ذكريات كثيرة مضى زمانها الآن.
اتجه نحو المطبخ، ربّما لأن صداعاً داهمه على حين غرّة، ملأ إبريق الشاي بالماء، وأشعل تحته الغاز، ثم رجع باتجاه الشرفة، بينما أخذ كلب الجيران ينبح، فرجع كأنه يريد أن يستمع إلى الأخبار، أو أن يتصفح عدداً من الصحف والمجلات التي أحضرها معه مجدداً.
حاول أن يُشعل لفافة تبغ، أمسكها، ثم أعادها إلى علبة الدخان وعاد ليطفئ النار تحت إبريق الشاي.
رمى مجلة بيده، وارتدى ملابسه من جديد، وغادر إلى مقهى نرجيلة، جلس يدخن، وأمامه فنجان قهوة تذكر الأصدقاء والزملاء، وهو أسفٌ وحزين، فلم يدعهم يشاركونه ذكرى ميلاده، ولم يسمح لهم بإقامة أي احتفال به.
حين أخذ يحتسي القهوة أخذه الشك فهل أطفأ النار تحت إبريق الشاي أم أنه لم يطفئها، هبّ مهرولاً، (في الصباح انفجرت اسطوانة في بيت، وفي المساء قد تنفجر اسطوانة في بيتي)، ولم يكن يريد أن يختم نهاره بانفجار آخر.
أدرك البيت، وجد كل شيء على ما يرام.. عاد إلى المقهى ثانية، جاءه صديق يعمل قاضياً، طلب له نرجيلة وكوب شاي.
وراح القاضي من توّه يحدثه عن قضية يحقق فيها جريمة قتل حارس ليلي أمام زوجته وأطفاله الصغار، وملابسات الجريمة غامضة، وشهادة الزوجة تزيد في غموضها، وابن الحارس الولد الكبير بين أولاده كان لا يزال عاجزاً عن الكلام خوفاً وذعراً من مشهد الجريمة.
كان يتابع تفاصيل وقوع الجريمة أول الأمر، ثم ما لبث أن ترك صديقه القاضي يتحدث، بينما راح هو يشرد مجدداً وسط ضجيج السيارات العابرة أمام المقهى، وبدا أنه لن يتمكن من سماع صديقه حتى لو رغب.
ما الذي سيفعله إذاً؟؟
كان أجدى له أن ينسحب من المقهى معتذراً من صديقه ويتجه إلى البيت لابتلاع القرص، ثم يحلم، كما وعده صديقه الذي قدمه له في الصباح.
ثم ينتظر الغد، حيث سيبدأ معه عاماً جديداً من حياته رضي أم لم يرضَ!
استقل باصاً من باصات مؤسسة النقل ذات اللون الكيوي الجديدة، كانت به مقاعد خالية، لكنّه فضل الوقوف وراح يتأمل وجوه الجالسين.
يطل من عيونهم إجهاد اليوم، ويتدفق منها الإحباط، باستثناء عدد من الشبان، كانوا يتحدثون بأصوات عالية.
في جواره رجل يجلس بجانب زوجته التي احتضنت طفلة بديعة العينين، تعلقت أنظاره بها، كانت الطفلة مشغولة بمتابعة الشوارع التي يمرّ خلالها الباص، وحين التفتت إليه، ورأته ينظر وجهها، خجلت والتصقت بوالدتها..
ضمتها أمها بحنو بالغ، شجّعت الطفلة، فرمقته مجدداً، وأخذت تلعب لعبة الخجل مرة تلو المرة.
قبل أن يترجل من الباص، كانت الطفلة كما لو أنها أَلفته، فمنحته ابتسامة وديعة ملأته بالسكينة. ثم ما لبثت أن لوحت له من نافذة الباص مودعة، فردّ ملوحاً ضاحكاً، وظلَّ على الرصيف جامداً، حتى اختفى الباص أمام عينيه.
استدار إلى شقته، خفيف الخطو لكن مشهد الطفلة الأخير كان بدأ يكرر نفسه في خياله ولا ينتهي.
دخل البيت وهو لا يزال مأخوذاً إلى الطفلة، إلى جمال عينيها، وبراءتها، فوجد نفسه يتضرع إلى الله أن يحميها ويحفظ لها والديها.
خلع ملابسه، ارتدى لباس النوم.. دسّ نفسه في السرير هادئ الخاطر، طيب النفس، أطفأ النور..
وسرعان ما سطا عليه سلطان النوم دون قرص.
حلم بطفل يشبهه.. ترك والدته، وتسلل إلى حديقة حيوان دخل فيها، وأمضى وقتاً يلعب.
تسلق أشجارها.. وقع الأرض فجأة.
هبّ واقفاً وأخذ يلعب من جديد.
ولا يزال الطفل في الحديقة.
عبد المعين زيتون
التاريخ: السبت31-8-2019
رقم العدد : 17061