الملحق الثقافي:ناظم مهنا:
إنسان اليوم، يدلف إلى عصر جديد، يطلق عليه المفكر الاقتصادي جيريمي ريفكين: «عصر الوصول».
يبدو لي التعبير محمّلاً بالمعنى، وفيه مقدار كبير من الحذاقة الفلسفية، ومن الواقعية والقدرة على الوصف، وفيه أيضاً مقدار وافر من الميثولوجيا، القائمة على الميثات، ميثا العبور وميثا الوصول، وميثا التبدل أو الفصول الأربعة، والكتاب بهذا يتجاوز إطاره الاقتصادي، ليغدو كتاباً في سلوك الإنسان الجديد وثقافته الراهنة.
«جيريمي ريفكين» في كتابه عن عصر الوصول يدقُّ لنا جرس التنبيه، ويستفز معارفنا، وهنا سأكتفي ببعض اللمحات والإشارات النقدية التي أرى أنها مفيدة لإدراكنا ما يعتمل في نفوسنا ومن حولنا، يقول لنا: «إن أشياء جديدة، وتغيرات جوهرية حدثت في طبيعة النظام الرأسمالي، أدت إلى تحولات في عادات البشر وسلوكهم وثقافتهم».
اللعب هو الغاية
إننا نبحر في عهد جديد، تُشترى فيه التجارب الإنسانية بشكل متزايد، على هيئة وصول إلى شبكات كثيرة الأوجه، في المجال السابيري. هذه الشبكات الإلكترونية التي يقضي فيها عدد متزايد من الأفراد تجاربهم من يوم إلى يوم، يتحكَّم بها عدد محدود من شركات الإعلام العابرة للحدود التي تمتلك «خطوط الأنابيب»، والتي يتراسل خلالها الأفراد بعضهم مع بعضٍ، وهي تتحكم بكثير من المحتوى الثقافي الذي يُدفع ثمنه، والذي يشكل خبرات ما بعد الحداثة. ويرى ريفكين أنه لا توجد سابقة في التاريخ بمثل هذا التحكم بعيد المدى في الاتصالات الإنسانية… ويصبح عمالقة شركات الإعلام المدمجة، وموفِّرو المواد التي يقدّمونها «حراس البوابة»، الذين يحددون الشروط التي يؤمّن بموجبها مئات الملايين من البشر التواصل بعضهم مع بعضٍ في العهد الجديد.
اللعب هو واحد من عوامل تحديد العصر القادم، وإنسان العصر القادم يختلف عن إنسان العصر الرأسمالي في نظر ريفكين، إذ إن عالمَ إنسان العصر الرأسمالي قائم على التملك. وشركات الإعلام عبر الحدود المالكة لشبكات الاتصال التي تحيط بالعالم تنقّب عن الموارد الثقافية المحلية في كل أصقاع العالم، وتعيد تعليبها سلعاً ثقافية أو سلع تسلية. والتحول من الرأسمالية الصناعية إلى الرأسمالية الثقافية، بدأ يتحدَّى افتراضاتنا الأساسية التي تشكل المجتمع الإنساني، فالمؤسسات القديمة بأرضيتها في علاقات التملك، وتبادلات السوق، ومراكمة الماديات، تُقتلع بتؤدة لتفتح المجال لعهد تصبح الثقافة فيه أهم مصدر تجاري، إذ يصبح الوقت والانتباه أهم الممتلكات الثمينة، وتصبح حياة الفرد الشخصية هي السوق النهائية.
فيما مضى، كانت الفجوة بين مَنْ يملكون ومَنْ لا يملكون، تحدّد محتوى الصراع، وكانت دائماً فجوة واسعة، لكن الفجوة بين المرتبطين بالشبكة وغير المرتبطين أوسع، والعالم يتطور، اليوم، بسرعة إلى حضارتين متمايزتين؛ الذين يعيشون ضمن البوابات الإلكترونية للمجال السابيري، وأولئك الذين يعيشون خارجها، فشبكات الاتصال الرقمية العالمية الجديدة، بسبب شموليتها وإحاطتها، لها من التأثير ما استحدث مجالاً اجتماعياً جديداً وجامعاً، وهو «كرة أرضية ثانية، فوق أمنا الأرض، معلقة في أثير المجال السابيري».
فجوة الأجيال هذه، تصاحبها فجوة اقتصادية، وأخرى اجتماعية تماثلها في عمق تأثيرها، في حين نجد خُمْس سكان العالم يهاجرون إلى المجال السابيري، وعلائقية الوصول، ونرى بقية الإنسانية لا تزال محشورة في عالم العوز المادي، وتبقى الحياة للفقراء كفاحاً يومياً للبقاء، والمؤلم أن أكثر من نصف سكان العالم لم يتح لهم أن يتكلَّموا بجهاز الهاتف.
من الثقافة إلى التسلية
إن التغيرات الكبرى في التاريخ، أي تلك التي تغير طريقة تفكيرنا وفعلنا تغييراً جوهرياً، يكون لها طبيعة الزحف ببطء وصمت، ونحن نشعر اليوم بأنَّ ما نعرفه بات من طراز قديم، لأننا في عالم جديد متكامل، ودليلاً على بطء التأثير الثقافي، يقدم ريفكين تعبيرَ «العصر الصناعي» على أنه لم يستخدم إلا في نهاية القرن التاسع عشر، من المؤرخ البريطاني أرنولد توينبي، وبعد قرن تقريباً من بَدْء الثورة الصناعية.
القصد من الثقافة، أن تكوّن تجربة مشتركة، أي إنها تجمّع حول القيم المشتركة، أما النتاجات الثقافية، فهي من الناحية الأخرى تقسيم الثقافة إلى قطع وأجزاء، وإعادة تخصيصها تسليةً تجارية شخصية. ويستشهد ريفكين بـ»نيل غايلر» الذي يبرهن على أن ثورة التسلية قد أصبحت القوة الاقتصادية والاجتماعية الأقوى في عصرنا.
وهكذا تتحقق نبوءة هيرمان هيسه، في روايته الشهيرة «لعبة الكريات الزجاجية» إذ المرتبة الأخيرة في المجتمع الكستالي المفترض هي «عصر ثقافة التسلية».
يقول غابلر: «مع نهاية القرن العشرين لم يعد العنصر التجاري الأهم عند الأمريكيين، هو التجارة، بل أصبحت التسلية هي الأهم».
ويؤكد ريفكين أن الكفاح الجيوبوليتيكي الجديد يتركز ويتزايد على مسألة الوصول إلى الثقافة المحلية وقنوات الاتصال، التي تنقل المحتوى الثقافي بشكل تجاري، مع ملاحظة تقلّص الزمان والمكان في الثقافة الجديدة.
إذاً، نحن نواجه حقيقة أن أنموذجاً أصيلاً جديداً من البشر يتولّد الآن، نساء ورجال القرن الواحد والعشرين، وهم نسل مختلف عن آبائهم وأجدادهم من برجوازيي العصر الصناعي، وهم أكثر اهتماماً في الحصول على تجارب ممتعة ومسلية، وقادرون على التفاعل مع عوالم متوازية بصورة آنية، وسريعون في تغيير شخصيّاتهم لتتماشى مع واقع جديد يوضع أمامهم، سواء أكان ذلك حقيقياً أم مزيفاً، وهؤلاء الأبناء الجدد يفكرون بأنفسهم بوصفهم لاعبين وليسوا عاملين، ويفضلون أن يفكِّر الآخرون بهم بوصفهم مبدعين بدلاً من كادحين. إنهم وقتيون، نشؤوا في عالم استخدام الوقت، واعتادوا على أنهم في مهمات وقتية، حياتهم أكثر وقتيَّةً وأقل ثبوتاً، على أرضية صلبة، من آبائهم. إنهم علاجيون أكثر من أنهم أيديولوجيون، ويفكّرون بالأشكال أكثر مما يفكّرون بالكلمات.
هؤلاء النساء والرجال الجدد قد بدؤوا توّاً يتركون التملك خلفهم، إن عالمهم بصورة متزايدة، عالم من الشبكات، و»حراس البوابات» والاتصالية. إن الوصول بالنسبة إليهم، هو ما يجب الاحتساب له، إنهم أول من يعيش فيما دعاه المؤرخ أرنولد توينبي بـ»عصر ما بعد الحداثة». هذا العصر الجديد يتعارض بشدة مع العصر الحديث.
لكن، ما الذي جعل عصر ما بعد الحداثة مختلفاً عن العصر الحديث؟
يجيب ريفكين: إن الإجابة البسيطة، إنما المعقدة، يمكن أن نجدها في حقيقة أن عصر ما بعد الحداثة مرتبط بمرحلة جديدة من الرأسمالية المبنية على تحويل الوقت إلى سلعة تنعكس على الثقافة والتجارب المعيشة، في حين أن العصر المنصرم يمثل مرحلة أسبق للرأسمالية، كانت أرضيتها في جعل العقارات والموارد سلعاً، وفي التعاقد على عمل الإنسان وتصنيع البضائع وتوفير الخدمات الأساسية. الحداثة، وهي المرحلة الممتدة تقريباً من عصر الأنوار الأوروبي في القرن الثامن عشر إلى نهاية الحرب العالمية الثانية، رأت هذه الحداثة أن انتصار الملكية الخاصة، أساسٌ لهيكل العلاقات الإنسانية، وبروز المذهب العقلاني، والمذهب العلمي، والمادية والأيديولوجيا، والمفهوم المستقيم للتقدم، هي بُنىً فوقية للفلسفة العظمى المبنية على قمة نظام الملكية الشخصية.
اللعب مكان العمل
عصر ما بعد الحداثة، مبني على مجموعة مختلفة من الافتراضات عن الطبيعة والحقيقة، افتراضات تؤدي في النهاية إلى تقويض الأفكار الحديثة عن «التملك»، وتعطي الدعم لإعادة هيكلة العلاقات الإنسانية حول قواعد «الوصول».
في البدء يرفض مفكرو ما بعد الحداثة ذات الفكرة عن الحقيقة الثابتة، التي يمكن معرفتها. ويرى ريفكين أن أول ثلمة في درع التنوير حدثت في القرن العشرين، عندما أدخل العالم الألماني فيرنر هايزنبرغ فكرة اللاحتمية إلى الجدل العلمي.
في عصر الإنسان الصناعي، كان السوق يتباهى بحركة البائعين والمشترين، أما اليوم، فالحديث يدور حول المستخدمين والمجهزين. في اقتصاد الشبكات، تتراجع التبادلات السوقية لمصلحة التحالفات الاستراتيجية، والمشاركة في المصادر واتفاقيات المشاركة في الأرباح، وعدد من الشركات توقفت عن بيع الأشياء فيما بينها، في حين قامت بتجميع مواردها والتشارك فيها، محدثة بذلك شبكات مجهزين ومستخدمين واسعة تقوم كلٌّ منها بالمشاركة في عمل الأخرى.
إن إعادة التشكل من الإنتاج الصناعي إلى الرأسمالية الثقافية يصاحبه تحول ملحوظ من أخلاقيات العمل إلى أخلاقيات اللعب. وحيث إن العصر الصناعي تميز بجعل (العمل) سلعة، نجد أن عصر الوصول، يتعلق أولاً وقبل كل شيء بجعل (اللعب) سلعة، بالقبض على الموارد الثقافية وتسويقها، بما في ذلك الطقوس والشعائر المختلفة والفنون والاحتفالات والحركات الاجتماعية والفعاليات الروحية والودية وارتباطات المواطنين، وكل ذلك بهيئة تسلية شخصية مدفوعة الثمن.
في عالم الرأسمالية المفرطة أو الفائقة، تغدو الحرب، بكل فجائعيتها، نوعاً من اللعب، والأوطان ساحات يلهو بها القتلة الدوليون، ومن الصعب فك الارتباط بين اللعب بوصفه غاية في الحروب، والمصالح، وأحياناً يتفوق البعد الأول على البعد الثاني، ونرى الإمعان الجنوني واللهو الطائش في حروب سادية، تتعارض مع منطق المصالح أحياناً.
إن الصراع بين عالمَيْ الثقافة والتجارة للسيطرة على الوصول إلى محتوى اللعب، هو واحد من عوامل تحديد العصر القادم، وإن شركات الإعلام عبر الحدود، المالكة لشبكات الاتصال التي تحيط بالعالم تنقّب بنهم عن الموراد الثقافية في أصقاع المعمورة وتحولها إلى سلع تسلية.
إنَّنا نجتاز التحوَّل إلى ما يدعوه الاقتصاديون باقتصاد التجربة، وهو عالم تصبح حياة كل فرد فيه في الواقع سوقاً تجارية.
إذاً، نحن في زمن التحوُّل من عصر الأسواق والتملك، إلى عصر الوصول الذي لا يخلو من التملك.
التاريخ: الثلاثاء17-9-2019
رقم العدد : 965