كان أسلافنا من الشعراء العرب القدامى ينفقون العمر كلَّه بحثاً وتنقيباً وإتقاناً لعملهم وتثقيفاً لنصوصهم لكي يكون واحدهم جديراً بلقب: شاعر؛ وكان الناس والنقادُ لا يرحمون من ينظم شعراً رديئاً؛ وحتى عاديّاً، قال بشار بن برد لرجلٍ قرأَ عليه شعراً: (يا هذا خبِّئْ هذا الشعر كما تخبئْ سوأتك).
وقال يحيى بن علي المنجم في حالٍ مشابهة واصفاً الشعر الرديء: (أكثر هذه الأشعار الساذجة الباردة تسقط وتبطل، إلّا أن تُرزقَ حمقى، فيحملون ثقلها، فتكونُ أعمارها بمدةِ أعمارهم، ثم ينتهي بها الأمر إلى الذهاب، وذلك أن الرواة ينبذونها وينفونها).
وقد أسهم حتى حُكّامُ تلك الأيام في نقد الشعر، وما تساهلوا في الفن حتى مع الشاعر الذي يقف أمامهم مادِحاً، ولعلَّ بعضكم قد قرأ أو سَمِعَ ما قاله الخليفة عبد الملك بن مروان للراعي النميري (الشاعر المعروف) حين بلغَ في إنشاده قوله:
أخليفةَ الرحمن إنّا معشرٌ
حنفاءُ نسجدُ بكرةً وأصيلا
عربٌ نرى لله في أموالنا
حق الزكاة منزَّلاً تنزيلا
قال له عبد الملك يومها:(ليس هذا شعراً، هذا شرحُ إسلام، وقراءة آية).
أما اليوم، ولا سيما في بلادنا، تهيمن على حياتنا الثقافيّة (ظواهرُ) يبدو فيها الإنسان كأنّه لم يعد في حاجةٍ إلى الإتقان المعرفي الخاص بالفن، أو حتى إلى امتلاك أدواته الفنيّة؛ لكي يُصبحَ فنّاناً – كما عبّر أدونيس يوماً- يكفيه أن يتسلّحَ بـ (توابع) الفن، أو (لواحقهِ) أو (عدّته):(إكسواراته)؛ يكفي أن يكون عاملاً في حقلهِ المتنوع الفسيح كيفما اتفق؛ وأن (يُنتج) كيفما اتفق لكي يصبح فناناً، أو يكفي الآن أن يملك جهاز (موبايل) جيداً وخط انترنت ليملأ الصفحاتِ هذراً يسميهِ شعراً وتأتيهِ الإعجاباتُ والتكريماتُ وشهداتُ التقديرِ من كلِّ فجٍّ عميقٍ وغير عميق!
وتبدو هذه المسألةُ أيها الأعزاء داءً لا دواءَ له… فهل يؤدي ذلك؛ مصحوباً بعوامل أخرى كثيرة إلى موت الشعر… أمّ علينا البحث عن وسائل وطرائق وأدوات مختلفة لمكافحةِ هذهِ الرداءة الفاشية؟! وهل نستطيعُ ذلك؟! أم أن الزمنَ هو الكفيل بحلّ هذهِ المسألة، وطرح الغث جانباً… كما حدثَ منذُ مئات السنين حتى الآن؟!
د. ثائر زين الدين
التاريخ: الأحد 12-1-2020
الرقم: 17166