هناك في أروقة البيت الأبيض.. هل ثمة أحد يسمع قهقهات فرانسيس فوكوياما صاحب كتاب نهاية العالم وهو يقبل يدي ترامب لا رأسه لأنه أنعش آماله بتحقيق نبوءته المشؤومة تلك (نهاية التاريخ)؟.. هل ثمة أحد يخبر ذلك الأحمق بأن العبث بحقائق الجغرافيا والتاريخ هو دفع لكل مظاهر الوجود والحياة نحو العدم؟.
.. وحده ترامب ومن خلفه نتنياهو يحاول نبش القبور والعبث بأشلاء الزمن الضائع علَّه يجد هناك متسعاً له داخل المكتب البيضاوي مرة ثانية وقد شارفت ولايته الأولى على إغلاق ستائرها، وقد خبأت خلفها أبشع ما عرفته البشرية من أشكال الإرهاب والإجرام والابتزاز، لاحظوا جيداً أنه أعطى الفلسطينيين مدة 4 سنوات لدراسة خطته المشؤومة تلك، أي بعد انتهاء ولايته الثانية، هذا الرجل المهووس بالسلطة والمال لا يهمه (صنع السلام) بغض النظر عن لون وطعم وماهية هذا السلام، كل ما يهمه هو الوصول إلى عرش البيت الأبيض وبأي طريقة حتى لو باع العالم كله بقشور الموز، المهم هو الوصول بأي ثمن، فهذا المهووس بالأرقام والأوهام لا يغفو إلا على قهقهات الحطام وأنغام العظام وهي تمزق آذان الزمن بعد أن تحول رأسه إلى مستودع للغاز والنفط، نتنياهو بطبيعته الإجرامية والدموية هو الآخر لا يختلف كثيراً عن ترامب، فهو يشاركه الهوس الانتخابي والسلطوي وبفائض كبير من الحماقة والتهور والطموح إلى رئاسة الحكومة الصهيونية مجدداً، هو الآخر لا يهمه شيء سوى الوصول إلى كرسي السلطة، هو الآخر تحول رأسه إلى مقبرة تملؤها الجثث والأشلاء.
بداية لا بد أن نؤكد مجدداً أن ما طرحه ترامب ليس بالجديد، بل هو نسخة جديدة مطورة عن الخطط الإسرائيلية التي حاولت مراراً فرض وقائع جديدة ونسف قرارات الشرعية الدولية واغتيال الحقوق الفلسطينية التي ولدت من أجلها تلك القرارات، (صفقة القرن) باختصار شديد هي محاولة صهيوأميركية وبدوافع هستيرية تغذيها وتحركها نزوات السلطة والمال لترسيخ الاحتلال وشرعنته وانتزاع الموافقة الدولية على ذلك، خاصة بعض المواقف التي لا تزال حتى اللحظة تحاكي قرارات الشرعية الدولية بشيء من الموضوعية والبراغماتية والواقعية السياسية التي تفرضها الظروف الدولية، في هذا السياق، والتي تدعو إلى إقامة دولة فلسطينية عاصمتها القدس الشريف.
صحيح أن الظروف الدولية تكاد تكون مهيأة لتمرير هكذا صفقة، إلا أن الإنجازات والانتصارات الكبرى التي حققتها الدولة السورية وحلفاؤها في الميدان والسياسة، ولا سيما محور المقاومة، كان لها الأثر الكبير في التخفيف من إصابتها -أي تلك الصفقة- هدفها بشكل مباشر، ليس هذا فحسب بل يمكن التأكيد أيضاً على حقيقة باتت ساطعة جداً وهي أن القواعد والمعادلات التي خلقها الواقع الذي ارتسم بفعل التضحيات الجسام للشعب السوري وجيشه الباسل كانت السبب الأساسي والمباشر في إجهاض وإحباط هذه الخطة حتى قبل أن ترى النور، ذلك أن الصمود الأسطوري للشعب السوري أعاد ترسيخ وإحياء كل عوامل المقاومة والصمود والمواجهة والوقوف في وجه كل المشاريع والمؤامرات الاحتلالية والاستعمارية والإرهابية التي تستهدف حقوق وقضايا الأمة العربية.
(صفقة القرن) هي محاولة صهيوأميركية جديدة لإضفاء الشرعية الدولية على كيان الاحتلال الصهيوني ولكن على أسس احتلالية مختلفة بعد نسف كل المرتكزات والحوامل الدولية والأخلاقية للقضية الفلسطينية وهنا مكمن الخطورة الكبير، حيث تجهد إسرائيل بفائض مكرها المعهود لاستغلال الظروف الكارثية للمنطقة والعالم في ظل وجود رئيس أميركي يمتلك هو الآخر فائضاً كبيراً من الحماقة وهوس المال والسلطة، تجهد إلى فرض وقائع جيوسياسية وديمغرافية احتلالية بغطاء شرعي وتحت مسمى (خطة للسلام المنشود).
إعلان هذه الصفقة الخطيرة التي تهدف إلى اغتيال كل حقوق الشعب الفلسطيني التاريخية وفي هذا التوقيت الاستثنائي على المنطقة والعالم قد يؤدي إلى فتح كل الخيارات والاحتمالات على المجهول، بما فيها عودة الكفاح المسلح الفلسطيني والعربي إلى أولويات العمل المقاوم، وللتذكير فقط فإن المقاومة المسلحة الفلسطينية قد عادت إلى الحضور وبزخم كبير بعد اتفاقية أوسلو الشهيرة، التي كانت لبنة أساسية في جدار القضاء على الحقوق الفلسطينية.
ما حصل هو محاولة بائسة لاحتلال عقول الأجيال القادمة وتصفية للذاكرة العربية والفلسطينية المشتعلة بالحق الفلسطيني وهذا ما يفرض على كل الشعب الفلسطيني التلاحم والتوحد من أجل ضرب ونسف هذه الصفقة من جذورها وعدم الالتفات إلى الصراعات والانقسامات الداخلية، وتوجيه البوصلة نحو هدف واحد هو تحرير الأرض وانتزاع حقوق الشعب الفلسطيني رغماً عن أنوف كل الغزاة والمحتلين، والاستفادة من تجربة الشعب العربي السوري التي ستبقى حاضرة في أذهان كل المقاومين والأحرار.
فؤاد الوادي
التاريخ: الثلاثاء 4-2-2020
الرقم: 17184