الملحق الثقافي:
قد يكون الجهل سبباً لسعادة البعض، لكن ذلك لا يعني القبول بالغباء. لم يكن الجهل عذراً جيداً في الماضي، وسوف لن يكون كذلك حينما يستطيع الإنسان اليوم الحصول على أي جواب من غوغل.
ما مقدار المعرفة التي نتوقع الحصول عليها من الخبراء عندما يستطيع تلاميذ المدرسة وبسهولة الوصول إلى المستودعات الهائلة للمعرفة الإنسانية؟ حتى في هذا العصر من الجوائز التقديرية، نشعر بالصدمة عندما تقرر لجنة جائزة نوبل منح الجائزة لفريق من العلماء كان بحثهم يجسّد فشلاً تاماً بصرف النظر عن عدد السنوات التي أمضوها في البحث. لكن الموقف يختلف كثيراً في الفلسفة، حيث احتفل سقراط (470-399ق.م) بادّعائه الشهير «الشيء الوحيد الذي أعرفه هو أني لا أعرف أي شيء».
إذاً لماذا نستمر في تبجيل سقراط كواحد من أعظم المفكرين في تاريخ الفلسفة، بينما يعترف بكونه جاهلاً تماماً؟ يجب الانتباه إلى أن جهل سقراط لم يكن ناجحاً مع معاصريه. هم كانوا محبطين جداً من تحقيقاته الفلسفية لدرجة حكموا عليه بعقوبة الموت. أثناء محاكمته ادّعى سقراط بأنه انتهج الحكمة على حساب جميع مسؤولياته الأخرى، وهو لجأ إلى فقره ليتحقق من نزاهته المهنية. كاليكلس (callicles)، أحد النقاد القساة لسقراط، لم يكن مهتماً بهذه المحاولة في الدفاع عن الحياة الفلسفية: «عندما أرى الفلسفة لدى فتى شاب سوف أوافق عليها»، ثم بدأ بإطلاق العنان لتوبيخاته لسقراط قائلاً: «ولكن عندما أرى رجلاً مسناً لايزال مستمراً في الفلسفة ولا يتخلص منها، ذلك الرجل وأعني سقراط، أرى انه بحاجة إلى الجلد بالسوط» (أفلاطون، غورغياس 485c-d).
وعلى الرغم من أن هناك القليل من الأفراد في أثينا انخرطوا في دراسة الفلسفة، لكن كل شخص في المدينة عرف عن سقراط. عندما أراد الكاتب المسرحي الساخر أريستوفان نقد التفكير العلمي في مسرحيته الغيوم (clouds)، هو وصف سقراط كمعلم شارد الذهن يمارس تجارب مخالفة للعقل: تلاميذه يقولون إن الأستاذ كان يحاول معرفة ما إذا كان طنين الذبابة ينطلق من فمها أم من ذيلها. المسرحية تُفتتح بمواطن أثيني أحمق يحاول إقناع ابنه الساذج لتطوير نفسه عبر التسجيل في أكاديمية سقراط. يصرخ الابن (فيديبيس) بسخرية: «أنا أعرف ذلك كثيراً»، ويضيف إنه «مخادع، غير صادق، مجهول الأب، يعاني من فقر الدم، حافي القدمين، سخيف، مثل سقراط ومساعده وصديقه المخلص تشارفون (chaerephon)، مجموعة من التعساء ولا شيء آخر» (الغيوم 103).
سمعة سقراط تبدو امتدت إلى ما وراء بلده أثينا. أفلاطون يرعى اللقاء بين سقراط والشاب (مينو)، القائد العسكري الطموح الذي نال المديح من مدينة ثيسالي المجاورة. كونه درس مع مثقفين مشهورين لاسيما السوفسطائي غورغياس، يبدو أن مينو ذهب إلى سقراط لطلب نصيحة تتعلق بالكيفية التي سينجز بها الفضيلة والتي تعني النجاح. سقراط يسأل مينو «هل تستطيع أن تقول لي «ما إذا كانت الفضيلة يمكن تعلّمها، أم أنها تكتسب بالممارسة فقط؟ (أفلاطون، مينو 70 a). وبدلاً من الإجابة على سؤال الشاب، يجادل سقراط بأننا يجب أن نعرف ماذا يعني «النجاح» قبل أن نتمكن من معرفة كيفية تحقيقه.
مع ذلك، المرء سيحتاج إلى لعبة مختلفة كلياً اعتماداً على ما إذا كان يكافح ليكون مثل مؤسس أمازون أو مثل الأم تيريزا. سؤال مينو يفترض أنه سلفاً لديه فكرة جيدة عما يعنيه النجاح والذي يبدو أكثر شبهاً بجمع النقود والسلطة منه إلى مساعدة الفقراء والمحتاجين. سقراط يعترف بأنه ليست لديه فكرة أبداً حول الموضوع: «يجب أن ألوم نفسي بجهل تام حول الفضيلة»(71b). شعر مينو بالصدمة من هذا الجواب في ضوء سمعة سقراط في الحكمة. «لكنها الحقيقة يا سقراط»، يجيب مينو ساخراً، «بأنك لا تعرف ما هي الفضيلة؟ هل سنعود إلى البيت بهذا التقرير عنك؟»(71c).
لماذا يثير اعتراف سقراط بالجهل مثل هذا الغضب العنيف لدى مينو؟ بالتأكيد مينو سيقبل جهل سقراط في نطاق كامل من المواضيع، لكن كل شخص يتوقع معرفة معنى أن يكون الشخص جيداً. حتى السوفسطائي بروتوغاروس (490-420) الذي كان سيء السمعة في التحريض على الأفكار غير الأخلاقية بين تلاميذه، كان أكثر حكمة في التصريح بأفكاره علانية: «كل شخص، حسب قوله، يجب أن يعلن كونه عادلاً سواء كان كذلك أم لم يكن، وكل منْ لا يقدّم حجة حول العدالة يكون مجنوناً»، (أفلاطون، بروتوغوراس 323d).
سقراط يعترف ليس فقط بجهله، بل يذهب أبعد من ذلك بالإصرار على أنه لم يقابل أي شخص يعرف معنى الفضيلة. بهذا، سقراط ليس فقط يرفض معاصريه وإنما حضارته بالكامل. قصص حول الأبطال مثل (أخيل) لم تكن فقط تسلية ممتعة لليونانيين، وإنما هي جسدت نماذج أدوار للتكوين الثقافي للجيل القادم من المحاربين ورجال الدولة. مرة أخرى بروتوغاروس يذكّر سقراط بأنه يجب أن يعرف أحسن، طالما كل تلميذ مدرسة يستطيع أن يحكي أفعال الرجال العظماء في الماضي: «الأطفال، عندما يتعلمون دروسهم.. لُقّنوا بأعمال الشعراء الجيدين ليقرأوها وهم جالسين في الصف، وأريد لهم أن يتعلموها عن ظهر قلب»، يجيب بروتوغوراس: «هنا هم يلاقون العديد من المحاذير، الأوصاف، مدائح الناس الجيدين في الماضي، بأن الولد النبيه ربما يقلدهم ويسعى ليصبح مثلهم»(325e). كيف يمكن إذاً لسقراط القول إنه ليس لديه مواطنين تربّوا على أعمال الشعراء؟
لنرى كيف أن تصريح سقراط في الجهل قد يقوده إلى مزيد من المشاكل. رغم الشهادة بأنه لاحظ الطقوس الدينية اليونانية التقليدية، لكن التهمة التي أقامتها عليه المحكمة في أثينا كانت أنه يؤمن بعقيدة غير تقليدية: «سقراط آثم»، «لأنه يفسد الشباب ولا يؤمن بآلهة الدولة، وإنما في كينونات روحية جديدة أخرى» (أفلاطون، Apology، 24b-c). يجيب سقراط على التهمة بالجدال بعيداً عن التدنيس، وأنه كان في رسالة من الله. هو أدلى بشهادته أمام المحكمة بأن كاهن الآلهة في دلفي أخبر صديقه تشايرفون بأن سقراط كان أكثر الناس حكمة في العالم. سقراط بعدئذ يعلن أنه خصص بقية حياته للتحقيق مع آخرين ليرى إن كان بإمكانه العثور على شخص ما أكثر حكمة .
سقراط ادّعى أنه يختلف عن السوفسطائيين وعن ما قبل سقراط، هو طوّر سمعته بالحكمة لكنها نوع محدود من الحكمة الإنسانية وليس ذلك النوع من حكمة ما فوق الإنسان المطلوبة للتحدث بثقة كافية حول مسائل مثل تلك التي ناقشها السوفسطائيون وما قبل سقراط. هذه السمعة نشأت بالأصل من نبوءة أوحى بها كاهن الآلهة في (دلفي) لصديق سقراط (تشايرفون). سقراط أدرك أن كاهن الآلهة لا يكذب، ولكن مع ذلك هو يدرك جيداً أنه ليست لديه أي حكمة خاصة أبداً.
لكي يختبر كاهن الآلهة، أو لكي يثبت أنه خاطئ، سقراط استجوب الأشخاص الأثينيين الذين كانوا يحترمون جداً الحكمة. أولاً، هو استجوب السياسيين ثم الشعراء وأخيراً الحرفيين. في تحقيقه مع السياسيين وجد أنه رغم أنهم اعتقدوا أنهم حكماء جداً، لكنهم في الحقيقة لا يعرفون أي شيء أبداً. أما الشعراء، مع أنهم كتبوا أعمالاً عظيمة لكنهم كانوا غير قادرين على توضيحها، سقراط استنتج أن عبقريتهم لم تأت من الحكمة وإنما من نوع من الغريزة أو الإلهام غير المرتبط بذكائهم. كذلك، هؤلاء الشعراء بدوا يعتقدون أنهم يستطيعون التحدث بذكاء حول جميع المسائل والتي كانوا جاهلين فيها تماماً.
وبالنسبة إلى الحرفيين، وجد سقراط الناس الذين حقاً أنجزوا الكثير من الحكمة في أعمالهم، ولكنهم بشكل أو بآخر اعتقدوا أن خبرتهم في مجال معين سمحت لهم للتحدث بثقة في العديد من الحقول الأخرى التي لا يعرفون عنها أي شيء. وفي جميع الحالات، أكّد سقراط أنه كما هو، يعرف أنه لا يعرف أي شيء، وأنه لن يتأثر بإحساسه الخادع بالحكمة العظيمة. وهكذا هو يستنتج أنه حقاً أكثر حكمة من الآخرين لأنه لا يعتقد أنه يعرف ما لا يعرف. في النهاية، سقراط يؤكد نبوءة الكاهن، ويعلن نفسه أكثر الناس حكمة في العالم طالما هو الشخص الوحيد الذي يعترف بجهله.
ادّعاء سقراط في أنه يقوم بأعمال الله لا يبدو ناجحاً أمام هيئة القضاة الذين بدوا أقل اهتماماً بادّعائه بعدم معرفة أي شيء. القضاة وجدوه مذنباً، ولكن عرضوا عليه فرصة أخيرة لينقذ نفسه في أن يقول للمحكمة عن العقوبة الكافية المناسبة لجريمته. في آخر فعل احتجاجي له، اقترح سقراط أنه يحتفل بعمله الفكري في نفس الأسلوب الذي يحتفل به الرياضي المنتصر في المباراة: «ماذا إذاً يستحق الرجل ؟» سأل سقراط ساخطاً: «لا شيء هناك يا رجال أثينا شيء مناسب لي سوى طعام مجاني مدى الحياة في القاعة العامة. ذلك أكثر ملائمة لي قياساً بأي واحد منكم، ربح السباق في الأولمبك بزوج من الخيل» (Apology 36d). هيئة الادّعاء لم تكن مستمتعة بعقوبة سقراط المقترحة، فعاقبته بالموت بشرب السم. وبعد موته بوقت قصير أدرك الأثينيون أنهم اتهموه ظلماً. التاريخ دافع عن سقراط أيضاً. لكن السؤال يبقى: لماذا يجب أن نحترم شخصاً بسبب جهله؟
في حوار أفلاطون نحن المستفيدون من آلاف الصفحات التي تحتفظ بمحادثات سقراط مع معاصريه بولاء قليل أو كثير. سقراط يصرّح مرات ومرات أنه لا يعرف شيئاً عن الموضوع الذي يناقشه مع زملائه. مقطع استثنائي من بين آلاف الصفحات وهو من المناسبات القليلة التي يؤكد فيها سقراط أنه يعرف شيئاً بتأكيد مطلق: «إن هناك فرق بين الرأي الصحيح والمعرفة أستطيع التأكيد بأني أعرفه: لا توجد هناك أشياء أخرى أقول فيها ذلك، ولكن هذه فقط أستطيع القول أنا أعرف» (مينو 98b).
جهل سقراط كان في الحقيقة طريقة استفزازية لجعل الناس يفكرون حول الفرق بين الرأي (الذي عادة يُساء فهمه كثيراً) والادّعاء الثابت منطقياً. بكلمة أخرى، سقراط امتلك العديد من الأفكار الجيدة، لكنه أدرك أن هذا لا يفيد كأساس للحكمة.
حتى عندما يكون هناك فلاسفة سبقوه، سقراط هو المؤسس الحقيقي للفلسفة الغربية، لأنه كان الأول من يحقق علمياً في الشؤون الإنسانية. «كان سقراط أول من أنزل الفلسفة من السماء إلى الأرض»، حسبما يذكر رجل الدولة الروماني شيشرون حول إنجازاته الهائلة، «وأجبرها لتسأل أسئلة عن الحياة والأخلاق (Tusculan Disputations 5-10-1).
العديد من الناس لازالوا يعتبرون الأخلاق مجرد مسألة رأي. وفي دراسة أجريت عام 2015 من جانب مجموعة بارنا للبحوث (Barna Research Group) تقول إن 74% من جيل الألفية اتفقوا على القول: «مهما كان الشيء الصحيح لحياتك أو يعمل جيداً لك، فهو الحقيقة الوحيدة الموجودة» (نهاية المطلق: بارنا، الكود الأخلاقي الأمريكي الجديد). مقابل ذلك، اعتقد سقراط بقوة أن الشؤون الإنسانية تُحكم بالمبادئ المطلقة، وبهذا يمكن التحقيق بها مثل الحقول الأخرى للمعرفة. ورغم تخصيص حياته كلها لهذه الدراسات، هو اُجبر للاعتراف بحدود معرفته. ولكن مثلما بحوث السرطان التي سوف لم تتوقف حتى تجد علاجاً، نحن يجب أن نستمر بالعمل الذي بدأه سقراط، لا لأي سبب غير الذي تعتمد عليه حياتنا. «واجب الاستجواب سوف يجعلنا أفضل حالاً وأكثر شجاعة وأقل بؤساً من فكرة أن لا إمكانية لاكتشاف ما لا نعرف».قد يكون الجهل سبباً لسعادة البعض، لكن ذلك لا يعني القبول بالغباء. لم يكن الجهل عذراً جيداً في الماضي، وسوف لن يكون كذلك حينما يستطيع الإنسان اليوم الحصول على أي جواب من غوغل.
ما مقدار المعرفة التي نتوقع الحصول عليها من الخبراء عندما يستطيع تلاميذ المدرسة وبسهولة الوصول إلى المستودعات الهائلة للمعرفة الإنسانية؟ حتى في هذا العصر من الجوائز التقديرية، نشعر بالصدمة عندما تقرر لجنة جائزة نوبل منح الجائزة لفريق من العلماء كان بحثهم يجسّد فشلاً تاماً بصرف النظر عن عدد السنوات التي أمضوها في البحث. لكن الموقف يختلف كثيراً في الفلسفة، حيث احتفل سقراط (470-399ق.م) بادّعائه الشهير «الشيء الوحيد الذي أعرفه هو أني لا أعرف أي شيء».
إذاً لماذا نستمر في تبجيل سقراط كواحد من أعظم المفكرين في تاريخ الفلسفة، بينما يعترف بكونه جاهلاً تماماً؟ يجب الانتباه إلى أن جهل سقراط لم يكن ناجحاً مع معاصريه. هم كانوا محبطين جداً من تحقيقاته الفلسفية لدرجة حكموا عليه بعقوبة الموت. أثناء محاكمته ادّعى سقراط بأنه انتهج الحكمة على حساب جميع مسؤولياته الأخرى، وهو لجأ إلى فقره ليتحقق من نزاهته المهنية. كاليكلس (callicles)، أحد النقاد القساة لسقراط، لم يكن مهتماً بهذه المحاولة في الدفاع عن الحياة الفلسفية: «عندما أرى الفلسفة لدى فتى شاب سوف أوافق عليها»، ثم بدأ بإطلاق العنان لتوبيخاته لسقراط قائلاً: «ولكن عندما أرى رجلاً مسناً لايزال مستمراً في الفلسفة ولا يتخلص منها، ذلك الرجل وأعني سقراط، أرى انه بحاجة إلى الجلد بالسوط» (أفلاطون، غورغياس 485c-d).
وعلى الرغم من أن هناك القليل من الأفراد في أثينا انخرطوا في دراسة الفلسفة، لكن كل شخص في المدينة عرف عن سقراط. عندما أراد الكاتب المسرحي الساخر أريستوفان نقد التفكير العلمي في مسرحيته الغيوم (clouds)، هو وصف سقراط كمعلم شارد الذهن يمارس تجارب مخالفة للعقل: تلاميذه يقولون إن الأستاذ كان يحاول معرفة ما إذا كان طنين الذبابة ينطلق من فمها أم من ذيلها. المسرحية تُفتتح بمواطن أثيني أحمق يحاول إقناع ابنه الساذج لتطوير نفسه عبر التسجيل في أكاديمية سقراط. يصرخ الابن (فيديبيس) بسخرية: «أنا أعرف ذلك كثيراً»، ويضيف إنه «مخادع، غير صادق، مجهول الأب، يعاني من فقر الدم، حافي القدمين، سخيف، مثل سقراط ومساعده وصديقه المخلص تشارفون (chaerephon)، مجموعة من التعساء ولا شيء آخر» (الغيوم 103).
سمعة سقراط تبدو امتدت إلى ما وراء بلده أثينا. أفلاطون يرعى اللقاء بين سقراط والشاب (مينو)، القائد العسكري الطموح الذي نال المديح من مدينة ثيسالي المجاورة. كونه درس مع مثقفين مشهورين لاسيما السوفسطائي غورغياس، يبدو أن مينو ذهب إلى سقراط لطلب نصيحة تتعلق بالكيفية التي سينجز بها الفضيلة والتي تعني النجاح. سقراط يسأل مينو «هل تستطيع أن تقول لي «ما إذا كانت الفضيلة يمكن تعلّمها، أم أنها تكتسب بالممارسة فقط؟ (أفلاطون، مينو 70 a). وبدلاً من الإجابة على سؤال الشاب، يجادل سقراط بأننا يجب أن نعرف ماذا يعني «النجاح» قبل أن نتمكن من معرفة كيفية تحقيقه.
مع ذلك، المرء سيحتاج إلى لعبة مختلفة كلياً اعتماداً على ما إذا كان يكافح ليكون مثل مؤسس أمازون أو مثل الأم تيريزا. سؤال مينو يفترض أنه سلفاً لديه فكرة جيدة عما يعنيه النجاح والذي يبدو أكثر شبهاً بجمع النقود والسلطة منه إلى مساعدة الفقراء والمحتاجين. سقراط يعترف بأنه ليست لديه فكرة أبداً حول الموضوع: «يجب أن ألوم نفسي بجهل تام حول الفضيلة»(71b). شعر مينو بالصدمة من هذا الجواب في ضوء سمعة سقراط في الحكمة. «لكنها الحقيقة يا سقراط»، يجيب مينو ساخراً، «بأنك لا تعرف ما هي الفضيلة؟ هل سنعود إلى البيت بهذا التقرير عنك؟»(71c).
لماذا يثير اعتراف سقراط بالجهل مثل هذا الغضب العنيف لدى مينو؟ بالتأكيد مينو سيقبل جهل سقراط في نطاق كامل من المواضيع، لكن كل شخص يتوقع معرفة معنى أن يكون الشخص جيداً. حتى السوفسطائي بروتوغاروس (490-420) الذي كان سيء السمعة في التحريض على الأفكار غير الأخلاقية بين تلاميذه، كان أكثر حكمة في التصريح بأفكاره علانية: «كل شخص، حسب قوله، يجب أن يعلن كونه عادلاً سواء كان كذلك أم لم يكن، وكل منْ لا يقدّم حجة حول العدالة يكون مجنوناً»، (أفلاطون، بروتوغوراس 323d).
سقراط يعترف ليس فقط بجهله، بل يذهب أبعد من ذلك بالإصرار على أنه لم يقابل أي شخص يعرف معنى الفضيلة. بهذا، سقراط ليس فقط يرفض معاصريه وإنما حضارته بالكامل. قصص حول الأبطال مثل (أخيل) لم تكن فقط تسلية ممتعة لليونانيين، وإنما هي جسدت نماذج أدوار للتكوين الثقافي للجيل القادم من المحاربين ورجال الدولة. مرة أخرى بروتوغاروس يذكّر سقراط بأنه يجب أن يعرف أحسن، طالما كل تلميذ مدرسة يستطيع أن يحكي أفعال الرجال العظماء في الماضي: «الأطفال، عندما يتعلمون دروسهم.. لُقّنوا بأعمال الشعراء الجيدين ليقرأوها وهم جالسين في الصف، وأريد لهم أن يتعلموها عن ظهر قلب»، يجيب بروتوغوراس: «هنا هم يلاقون العديد من المحاذير، الأوصاف، مدائح الناس الجيدين في الماضي، بأن الولد النبيه ربما يقلدهم ويسعى ليصبح مثلهم»(325e). كيف يمكن إذاً لسقراط القول إنه ليس لديه مواطنين تربّوا على أعمال الشعراء؟
لنرى كيف أن تصريح سقراط في الجهل قد يقوده إلى مزيد من المشاكل. رغم الشهادة بأنه لاحظ الطقوس الدينية اليونانية التقليدية، لكن التهمة التي أقامتها عليه المحكمة في أثينا كانت أنه يؤمن بعقيدة غير تقليدية: «سقراط آثم»، «لأنه يفسد الشباب ولا يؤمن بآلهة الدولة، وإنما في كينونات روحية جديدة أخرى» (أفلاطون، Apology، 24b-c). يجيب سقراط على التهمة بالجدال بعيداً عن التدنيس، وأنه كان في رسالة من الله. هو أدلى بشهادته أمام المحكمة بأن كاهن الآلهة في دلفي أخبر صديقه تشايرفون بأن سقراط كان أكثر الناس حكمة في العالم. سقراط بعدئذ يعلن أنه خصص بقية حياته للتحقيق مع آخرين ليرى إن كان بإمكانه العثور على شخص ما أكثر حكمة .
سقراط ادّعى أنه يختلف عن السوفسطائيين وعن ما قبل سقراط، هو طوّر سمعته بالحكمة لكنها نوع محدود من الحكمة الإنسانية وليس ذلك النوع من حكمة ما فوق الإنسان المطلوبة للتحدث بثقة كافية حول مسائل مثل تلك التي ناقشها السوفسطائيون وما قبل سقراط. هذه السمعة نشأت بالأصل من نبوءة أوحى بها كاهن الآلهة في (دلفي) لصديق سقراط (تشايرفون). سقراط أدرك أن كاهن الآلهة لا يكذب، ولكن مع ذلك هو يدرك جيداً أنه ليست لديه أي حكمة خاصة أبداً.
لكي يختبر كاهن الآلهة، أو لكي يثبت أنه خاطئ، سقراط استجوب الأشخاص الأثينيين الذين كانوا يحترمون جداً الحكمة. أولاً، هو استجوب السياسيين ثم الشعراء وأخيراً الحرفيين. في تحقيقه مع السياسيين وجد أنه رغم أنهم اعتقدوا أنهم حكماء جداً، لكنهم في الحقيقة لا يعرفون أي شيء أبداً. أما الشعراء، مع أنهم كتبوا أعمالاً عظيمة لكنهم كانوا غير قادرين على توضيحها، سقراط استنتج أن عبقريتهم لم تأت من الحكمة وإنما من نوع من الغريزة أو الإلهام غير المرتبط بذكائهم. كذلك، هؤلاء الشعراء بدوا يعتقدون أنهم يستطيعون التحدث بذكاء حول جميع المسائل والتي كانوا جاهلين فيها تماماً.
وبالنسبة إلى الحرفيين، وجد سقراط الناس الذين حقاً أنجزوا الكثير من الحكمة في أعمالهم، ولكنهم بشكل أو بآخر اعتقدوا أن خبرتهم في مجال معين سمحت لهم للتحدث بثقة في العديد من الحقول الأخرى التي لا يعرفون عنها أي شيء. وفي جميع الحالات، أكّد سقراط أنه كما هو، يعرف أنه لا يعرف أي شيء، وأنه لن يتأثر بإحساسه الخادع بالحكمة العظيمة. وهكذا هو يستنتج أنه حقاً أكثر حكمة من الآخرين لأنه لا يعتقد أنه يعرف ما لا يعرف. في النهاية، سقراط يؤكد نبوءة الكاهن، ويعلن نفسه أكثر الناس حكمة في العالم طالما هو الشخص الوحيد الذي يعترف بجهله.
ادّعاء سقراط في أنه يقوم بأعمال الله لا يبدو ناجحاً أمام هيئة القضاة الذين بدوا أقل اهتماماً بادّعائه بعدم معرفة أي شيء. القضاة وجدوه مذنباً، ولكن عرضوا عليه فرصة أخيرة لينقذ نفسه في أن يقول للمحكمة عن العقوبة الكافية المناسبة لجريمته. في آخر فعل احتجاجي له، اقترح سقراط أنه يحتفل بعمله الفكري في نفس الأسلوب الذي يحتفل به الرياضي المنتصر في المباراة: «ماذا إذاً يستحق الرجل ؟» سأل سقراط ساخطاً: «لا شيء هناك يا رجال أثينا شيء مناسب لي سوى طعام مجاني مدى الحياة في القاعة العامة. ذلك أكثر ملائمة لي قياساً بأي واحد منكم، ربح السباق في الأولمبك بزوج من الخيل» (Apology 36d). هيئة الادّعاء لم تكن مستمتعة بعقوبة سقراط المقترحة، فعاقبته بالموت بشرب السم. وبعد موته بوقت قصير أدرك الأثينيون أنهم اتهموه ظلماً. التاريخ دافع عن سقراط أيضاً. لكن السؤال يبقى: لماذا يجب أن نحترم شخصاً بسبب جهله؟
في حوار أفلاطون نحن المستفيدون من آلاف الصفحات التي تحتفظ بمحادثات سقراط مع معاصريه بولاء قليل أو كثير. سقراط يصرّح مرات ومرات أنه لا يعرف شيئاً عن الموضوع الذي يناقشه مع زملائه. مقطع استثنائي من بين آلاف الصفحات وهو من المناسبات القليلة التي يؤكد فيها سقراط أنه يعرف شيئاً بتأكيد مطلق: «إن هناك فرق بين الرأي الصحيح والمعرفة أستطيع التأكيد بأني أعرفه: لا توجد هناك أشياء أخرى أقول فيها ذلك، ولكن هذه فقط أستطيع القول أنا أعرف» (مينو 98b).
جهل سقراط كان في الحقيقة طريقة استفزازية لجعل الناس يفكرون حول الفرق بين الرأي (الذي عادة يُساء فهمه كثيراً) والادّعاء الثابت منطقياً. بكلمة أخرى، سقراط امتلك العديد من الأفكار الجيدة، لكنه أدرك أن هذا لا يفيد كأساس للحكمة.
حتى عندما يكون هناك فلاسفة سبقوه، سقراط هو المؤسس الحقيقي للفلسفة الغربية، لأنه كان الأول من يحقق علمياً في الشؤون الإنسانية. «كان سقراط أول من أنزل الفلسفة من السماء إلى الأرض»، حسبما يذكر رجل الدولة الروماني شيشرون حول إنجازاته الهائلة، «وأجبرها لتسأل أسئلة عن الحياة والأخلاق (Tusculan Disputations 5-10-1).
العديد من الناس لازالوا يعتبرون الأخلاق مجرد مسألة رأي. وفي دراسة أجريت عام 2015 من جانب مجموعة بارنا للبحوث (Barna Research Group) تقول إن 74% من جيل الألفية اتفقوا على القول: «مهما كان الشيء الصحيح لحياتك أو يعمل جيداً لك، فهو الحقيقة الوحيدة الموجودة» (نهاية المطلق: بارنا، الكود الأخلاقي الأمريكي الجديد). مقابل ذلك، اعتقد سقراط بقوة أن الشؤون الإنسانية تُحكم بالمبادئ المطلقة، وبهذا يمكن التحقيق بها مثل الحقول الأخرى للمعرفة. ورغم تخصيص حياته كلها لهذه الدراسات، هو اُجبر للاعتراف بحدود معرفته. ولكن مثلما بحوث السرطان التي سوف لم تتوقف حتى تجد علاجاً، نحن يجب أن نستمر بالعمل الذي بدأه سقراط، لا لأي سبب غير الذي تعتمد عليه حياتنا. «واجب الاستجواب سوف يجعلنا أفضل حالاً وأكثر شجاعة وأقل بؤساً من فكرة أن لا إمكانية لاكتشاف ما لا نعرف».
التاريخ: الثلاثاء4-2-2020
رقم العدد : 985