في زمن الحجر الذي نعيشه لا بد من الصبر والهدوء قليلاً، لأن ما يجري أكبر من توقعاتنا وأكثر غرابة من خيالنا. عاجزون نحن أمام التحولات المتسارعة والمتغيرات المخيفة التي تواجه بني البشر كأننا بين فكي الردى، والردى واقف، ونحن في حضرة النهايات لا نعرف ماذا بعد النهاية ؟
هل نسير إلى الأمام أم نقف في أماكننا نراوح في قلقنا وحيرتنا، أم يجب التراجع ؟
ولكن عن أي شيء نتراجع ؟ هل نتراجع عن حضارة اختصرت العالم وجعلته قرية صغيرة، بحيث أن ما يجري في جنوبها يصل إلى شمالها.. ومن يصرخ في غربها يتوجع في شرقها. صار البشر كلهم يأكلون الطعام نفسه ويلبسون اللباس ، وصارت لعبة العولمة لعبة للتسلية. رمينا كل مشاعر الود والإنسانية وراءنا لأن هذه التفاصيل لا تتناسب وزمن العولمة وتكنولوجيا الروبوتات. سخرنا من دموع المقهورين وجعلنا البشر أرقاماً للذكرى.. لم يعد هناك رجفة قلب ولا خفقة شوق، لأن الشوق ينتمي إلى التخلف وإلى الرومانسية المتهالكة.. صرنا مثل صخور متحجرة لا نعبأ إلا بالمادة.. كم جمعنا.. كم صار رصيدنا في البنك.. كم سيارة تقف على باب بيتنا ؟
كم.. هذا السؤال العددي المادي المتعب الذي صار من متطلبات العيش اليومي والقرار المستقبلي.. وكم تباعد الناس روحاً وتقاربوا مادياً وإلكترونياً.. كم صغرت الأرض وكم اتسعت. لكن صارت صورة البشر غير الصورة المألوفة التي كنا نعرفها.. وبالتالي كلنا تغيرنا وكلنا تحولنا إلى أشباه لأنفسنا.. لكن التحولات تحتاج إلى أزمنة متراكمة وثقافات متعددة وعقول منفتحة. غير أن زمن كورونا غافلنا وحدث بسرعة فاقت التصور، ونتج عنه تحول غير مسبوق خلال سرعة قياسية لا يستطيع العقل البشري أن يستوعبها ويقدر أبعادها الممتدة وأطيافها البعيدة المدى في الزمن العميق.
من هنا جاءت صعوبة هذا التحول السريع الذي سينتج عنه تغيرات تاريخية وأخلاقية وعاطفية وحتى فكرية. لكن صعوبة هذا التحول جاءت من ترافقه مع صعوبات مادية هائلة، إذ ازداد الفقير فقراً والغني غنى.. وتابع الفاسد فساده وكأنه سيعمر إلى أبد الدهر.
إن الزمن الذي نعيشه الآن لم يمر على البشرية أبداً، ولذلك هناك بعض الميزات للحجر الصحي المنزلي.. إذ قد يقرب المرء من نفسه فيضعه في حالة تأمل ومناجاة للخالق الذي يغير ولا يتغير، ولا يجري شيء في الكون إلا بإذنه.. فهل نحاسب أنفسنا ونقوم بجرد سلوكنا وتصرفاتنا وغينا وكبريائنا ؟.
هل يمكن للحجر المنزلي أن يضعنا في مواجهة مع أنفسنا التواقة للتسلط والتجبر والجشع والمال والابتعاد عن الروح مقابل المادة التي ثبت بأنها هي السبب في خراب ودمار هذا العالم المتهالك الخاسر والحائر ؟.
هل ما يجري من صنع أيدينا أم هذه ضريبة التطور والتقدم والحضارة التي بدأت تأكل نفسها وتدمر صانعها ؟.
ألا يقال: (كل نزلة يقابلها طلعة)؟.
يبدو أن كل رفاهية وتقدم وتطور يتبعها انهيار وخراب.. وكما انهارت امبراطوريات العالم العربي والغربي، ستنهار امبراطوريات حالية.. وإلا فلماذا هذا الصمت المطبق العاجز من الدول الغربية المتقدمة ؟ هل ثقب الغلاف الجوي هو السبب ؟ هل وصل الخط البياني للتطور إلى أقصاه وما عليه سوى النزول إلى الحضيض ومن ثم الانهيار والفناء ؟.
هل ما يحدث نتيجة لمسببات علمية أم أن ذلك عبارة عن معجزة إلهية لا سطوة للبشر عليها ؟.
كل هذه الأسئلة الحائرة نتداولها ونحن وراء نوافذ مغلقة وقلوب حزينة متعبة منتظرين الفرج القريب.
معاً على الطريق- أنيسة عبود