بعد أن قتل نفسه ذلك الشاب العاشق الملتاع بحبه، اشتهرت عبارة عقّب بها الشاعر (الأصمعي) على تلك الحادثة فقال: (ومن الحب ما قتل).. لتصبح مقولة تطلق على من أصابه سهم (كيوبيد) أي سهم الحب، فاخترق القلب منه ليسكت نبضه إذا ما لقي جفاءً من الحبيب.
لكنه ليس الحب المنقوص وحده ما قد يقتل صاحبه، بل إن من أمور الحياة غير المكتملة ما يمكن لها أن تفعل الأمر ذاته.. وهذا حالنا اليوم مع الإشاعات، والتهويل، والتضخيم، والأخبار الكاذبة، والصور، والأفلام القصيرة المفبركة، وكلها تصب عند أزمة العصر غير المسبوقة ألا وهي أزمة (كورونا) الذي تتطاير الشائعات حوله مع الرذاذ الذي يحمل ذراته.
وما وسائل التواصل على اختلاف مواقعها، وتسمياتها إلا ذلك الرذاذ المنتشر، وهي تروِّج للأخبار الملفقة عبر قنواتها لتصيب بها كل مَنْ يصدّق ولا يدقق، وكل مَنْ ينقل الخبر دون أن يفكر، أو أن يكذب، ومَنْ لا همَّ له إلا أن يفرِّق.
وكثير من الناس باتوا يستقون المعلومة من تلك المصادر الهشة، وتغيب عنهم مواقع الجهات الموثوقة التي لا تبث إلا الخبر الصحيح، والأكيد.. فماذا هم فاعلون؟ أولئك الناس الذين لا يناقشون ما يصل إليهم، أو ما يسمعونه، وهم بالخبر الغامض يثقون.. وقد نسوا أن هناك ما يسمى الـ(تزييف العميق) الذي بإمكانه أن يقتطع ما يشاء من أي سياق يشاء ليضعه في سياق آخر، فيبدو معه الخبر وكأنه ذلك الحقيقي!
ومن واحد لثانٍ.. ثم لثالث.. ومن ثم لرابع.. وهكذا.. ينتقل الخبر ليشيع، ويذيع، وكل واحد يضيف إليه المزيد كما يشتهي، وكما يريد.. فإذا بالمعلومة البسيطة تصبح إشاعة كبيرة يتداولها الناس فيما بينهم عبر مختلف الوسائط للتواصل متجاهلين أن للإشاعات سمومها التي تنفثها، وغاياتها التي ترصدها، وهي بالتأكيد تفعل فعلها.. ولتصبح بالتالي تلك المواقع الإلكترونية منصات ترويجية لكل ما يعارض، ويخالف.
وحتى أسماء الأدوية التي تعالج من هذا الوباء المستبد قبل أن يكون المستجد لم تنج ممن يعلن عنها وأن فيها الدواء، والشفاء الأكيدين.. بينما قليل من الناس مَنْ يبحث بشكل علمي عن المعلومة الصحيحة، ولا يقبل أن يقع فريسة للتضليل، والتهويل الذي يثير المشاعر السلبية، ويبث القلق، والخوف في النفوس، لتتحقق الإصابة المزيفة التي تهيئ للإصابة الحقيقية بالمرض.
أما الفئات العمرية من شباب المتابعين، والمستغرقين في استخدام وسائل التواصل الاجتماعي فهي كلما صغُرت أعمارها كانت أكثر عرضة للتأثر بالأخبار الكاذبة على سذاجة تلك الأخبار، وافتضاح تزييفها، وعدم مصداقيتها.. وأكثر قابلية لأن تقع في شباكها فتصدقها بعيداً عن إعادة النظر بها، أو أي محاكمة عقلية تزن الأمور بشكل منطقي.. لتصبح بالتالي فريسة لها، ووسيلة فعالة لنشرها.. وهؤلاء يفرحون بما يحققه الخبر الذي يتداولونه من نسب مشاهدة عالية، وكأنها نقاط الهدف الذي يسعون إليه.
إن الانصراف عن الإعلام الرسمي لسبب أو لآخر، جعل من منصة الإعلام الإلكتروني إعلاماً رائجاً سهل التناول والتداول.. فبعد ظاهرة الـ(فومو) أي الخوف من فوات الشيء أو الخبر، والتي هي حالة يصاب بها عشاق (الميديا) من أن يفوتهم خبر أو حدث، قد تبرز ظاهرة جديدة ربما يصبح اسمها (فوموكو) أي الخوف من فوات أخبار (كورونا).
ومن جهة أخرى.. في الوقت الذي تكثف فيه الحكومات من إجراءاتها الاحترازية للحفاظ على سلامة شعوبها يبرز أناس ممن يحبون تصدر الأخبار، أو ما يسمونه اصطلاحاً بالـ (ترند) أي وصول ما ينشر، ويذاع لأكبر عدد من المشاهدين، أو المتابعين، ليثير أولئك موجات من السخرية على منصات التواصل الاجتماعي أبعد ما تكون عن الكوميديا السوداء التي تفرزها الأزمات.. سخرية لا تتناسب مع جدية الموقف وخطورته، والغاية منها لا تتعدى الزهو بتحقيق الشهرة.. فأي شهرة هذه، وأي زهو بتصدر (الترند) هذا!!.. فالسخرية من تحقيق التباعد الاجتماعي، والاستخفاف بإجراءات الحماية من (كورونا) والدعوة للتمرد عليها، وتجاوزها لابد أن تثير استياءً عاماً عند الناس، وانتقادات واسعة.
إن حالة التهويل التي رافقت (كورونا) قد تصل بنا مستقبلاً إلى حالة من التشكيك في كل ما نسمع، أو نرى.. وكلتا الحالتين ليست من الظواهر الصحية التي تبرز في المجتمعات.
أما وقد تنبهت إدارات منصات التواصل الاجتماعي إلى ما يجري من سريان لكل ما هو زائف، ومبالغ فيه من أخبار، فقد بادرت إلى اتخاذ إجراءات الحذف، والمنع لهذه الأخبار التي تجاوزت سرعة انتشارها من خلال الحسابات المضللة، والتغريدات الكاذبة سرعة انتشار الفيروس ذاته.
شجرة (كورونا) تستطيل أغصانها.. وكذلك شجرة التهويل، والتضخيم، والتخويف.. فلتُقطع تلك الأغصان قبل أن نسقط فريسة للوهم، ومن بعده للمرض.
(إضاءات)- لينــــا كيـــــلاني