يعيد طرح مفهوم الهوية والانتماء والحرية إلى ساحة الجدل الفكري ومنابر الثقافة ما كان قد تناوله الفيلسوف البريطاني الشاب كولن ولسن قبل أكثر من 66 عاماً في مؤلفه اللامنتمي والذي شكل صدمة في الأوساط الثقافية والفكرية منتصف الخمسينيات، وترجم إلى أكثر من خمسين لغة وبيع منه عشرات الملايين من النسخ وعاد على ذلك الكاتب الفقير بملايين الجنيهات الإسترلينية وهو الذي كان يقضي أيامه في شوارع لندن ويتوسد أرصفة الشوارع لعل الفكرة المركزية في ذلك المؤلف الشهير تعالج سيكولوجيا حالة العزلة التي يعيشها المبدعون.
فاللامنتمي إنسان لا يرتبط بحزب أو جماعة أو طائفة أو دين أو أي شكل من أشكال الروابط التقليدية وقضيته، بل مشكلته هي مشكلة الحرية بشكلها العميق، أي تحرر الإنسان من كل أشكال الانتماءات، فهو يبحث أو يحلم بعالم معقول لا يربطه بشيء مقابل منحه بعض الامتيازات.
اللامنتمي ينظر للحياة بصورة مختلفة لا يريد سعادة ثمنها حريته وخياراته، ولا يريد قيوداً للمجتمع والدين والعائلة والمال، إنه إنسان يتمتع بحساسية عالية جداً أتعبته وأراحت الآخرين، فالصراع بين الذاتية والفردانية والمجموع تجعل الإنسان مربكاً وحائراً، إنه يحمل في رأسه ضجيج أسئلة لا تنتهي، تدفع به لاغتراف معرفي واسع، فيشعر بالغربة والانسلاخ عن المجتمع والانفصال عن الذين لا يستطيعون الانفصال عن هذه الروابط، فلا افتخار بالعصبية أو الإيديولوجيا أو غيرها من أشكال الانتماءات أو الاعتداد بشرف منسوب للتاريخ المجهول أو المتخيل، وكل ما من شأنه استغلال عصبية القطعان البشرية، فهي محط ازدراء له بسبب غباء البعض واعتزازه بما هو ليس فيه، وهنا فعليك أن تعبر عن مكنونات ذاتك الراغبة لا بما يمليه عليك المجتمع وعاداته وتقاليده.
وإذا كان البعض يتهم المبدعين بالسلبية والانطواء والجبن لأنهم يعيشون فردانيتهم، وهو أمر صحيح، فاللامنتمي هو نبي مستتر حتى عن ذاته، فكلما زاد الوعي زاد اللاانتماء فولسن خفر في تراث المسيرة الإنسانية، فاكتشف ورأى أن الإنسان يجب أن ينتمي إلى طبيعته الإنسانية، ولا يستلب من المجتمع أو الآلة المتطورة في المجتمع الصناعي الذي يحد من خياراته، إن الإنسان يجب أن يفرض ماهيته بنفسه ولا تفرض عليه من قوى أخرى أياً كانت، فالحرية هي شدة الإرادة في التعبير عن ذاتها وإنسانيتها بوصفها إرادة ذاتية، ولا تكون ما تريد من ضمن انتماء ضيق يفرض عليك فضاء تتحرك داخله لا خارجه، فضاء فرضته عليك الحضارة الحديثة كما كانت تفرضه العقائد وأشكال الغنوص، فتلك أطواق للحرية جعلت الناس يتبعون حرية مقوننة فرضها عليهم المجتمع أو أي انتماءات أخرى طبيعية أو إرادية، فهذه ملاجئ لحرية مزيفة، فولسن من خلال شخصيته الوجودية الفردانية رأى أن الإنسان هو إله نفسه، فقدراته إن ظهرت أو تجلت فسيبدو الوجود مختلفاً تماماً، فالصراع بين الحرية والإرادة من جهة والإخضاع من جهة أخرى جعلت الإنسان هشاً، فاللامنتمي فضل الخروج عن القطيع الذي يغيّب العقل الفردي لمصلحة العقل الجمعي المؤطر والمدجن، وهذا يجعل اللامنتمي يخرج عنه بشكل قهري، ففي هذا العصر الذي تكسرت فيه الهوية الفردية لمصلحة الجماعية وأمام هذا الذوبان للذات في المجموع كان السؤال من أنا؟ وكيف أكون؟ وقد تعرض عقلي لكل هذا الحشو من المجتمع ! وهذه مأساته ولعلها مأساة كل من يصرخ في صحراء الوجود، وأمام هذا المأزق لا خيار سوى الانتحار أو الانتصار أو مجاراة هذه الجموع بالصمت، حسرة على ما يواجهه ذلك اللامنتمي، أو بثورة وغضب عارم وسلوك حاد يوقعه في عزلة مديدة والتحاق بأهل كهف جديد؟.
د. خلف المفتاح