ثورة أون لاين :
أوتار…لذّة الحياة.. جهاد وصراع
آراء
الأربعاء 20/8/2008
ياسين رفاعية
الإيمان بالله وحده الذي يبعث الطمأنينة في النفس، وينقذ المرء من مكابدات الحياة وإحباطاتها، فالله لا يتخلّى عن عبده، وهو وحده يساعده في الملمّات وتجاوز المصائب، ولولا الإيمان يصبح الإنسان عاجزاً.
لا يعرف كيف يتصرّف بمصيره، إنك لترى هؤلاء المؤمنين كيف يظهر الرضا على وجوههم، وكيف يتعاملون مع الحياة كأنها شيء زائل، وإن الآخرة هي الراحة الدائمة بين أنهار الجنة وفاكهتها وعسلها ولبنها، هذا الحلم الجميل يجعلنا نراقب أنفسنا لننجو من الخطايا والحرام والنفاق والكذب والابتزاز وما تبقّى من أعمال الشيطان.
ثم إنّ الحياة جهاد وصراع، هذه لذّة الحياة، أن تناضل من أجل لقمة الخبز، وأن تسعى إلى الطموح تلو الطموح، وهذا شيء بديهي، وعندما تكون المثل العليا والمبادئ السامية، فهذا هو الخير كلّه.
كان لا بدّ لي من هذه المقدّمة، وأنا أقرأ دراسة عن الحياة الاجتماعية في الغرب، وخصوصاً تلك الدول “الحضارية” التي وفرّت لمواطنها كل شيء، من ضمان صحيّ واجتماعي ومادي حيث بدا هذا المواطن في أحسن حالاته.. حتى العاطلين عن العمل.. لم تتخلَ عنهم تلك الدول.. وتقدّم لهم المساعدات المالية فيتعودون على الكسل والاتكالية، في الوقت الذي كان من المفترض أن يتوجّهوا بأنفسهم إلى السعي والعمل.. فكسب القرش الحلال يولّد في النفس الرضا والأمان والشعور بالسعادة.
وهناك في تلك الدول الغربية، مع تحقيق كل ما يتوافر للإنسان من مباهج الحياة والاستقرار، نشأت أمراض جديدة أبلغها خطورة الإحساس بالوحدة والعزلة، وإذا أخذنا سويسرا مثلاً أنموذجاً، نكتشف، وبإحصاء دقيق أن “أربعة أشخاص في هذه الدولة المزدهرة ينتحرون يومياً” وهذا رقم كبير في بلد تعداد سكانه سبعة ملايين مواطن، لا يزيدون ولا ينقصون، دولة في قمة “الحضارة” ينتحر مواطنوها بهذه الكثرة، فما السبب في ذلك؟ فطبقاً – كما قالت إحدى الدراسات – لبيانات المكتب الفيدرالي للإحصاء يقدم نحو 1300 شخص سنوياً على الانتحار، 900 منهم رجال والبقية نساء، أي بمعدل أربعة حالات يومياً ، وهو – كما نرى – معدل يثير القلق في بلد ينعم بالرفاه والاستقرار السياسي.
بعد كل هذا، أصبحت الحياة رتيبة مملة، وما من جديد يتجدّد صباح كل يوم، أيام متشابهة شكلاً ومضموناً، فأصبح الانتحار تحدّياً للحياة ورفضاً لها، وبحسب الإحصاءات فإن الانتحار يتمّ بطرق عديدة كالمسدس والبندقية أو الشنق، أو إلقاء النفس تحت عجلات القطار، أو تناول مادة سامّة.
وتشير تلك الدراسة للباحث السويسري فلادينا غروس أعدّها العام الفائت لجامعة زورخ: إن أغلبية حالات الانتحار بين الشباب تكون نتيجة اتخاذ قرار عاجل من دون تفكير، وعادة ما يكون إثر صدمة، تفقد الإنسان توازنه النفسي، فلا يجد من وسيلة للهروب سوى الانتحار، وقتل نفس حرّم الله قتلها.
ويتساءل غروس: ما الذي يجعل شاباً في السابعة والعشرين من عمره يقدم على الانتحار وهو لايزال في بدايات حياته؟!.
وفيما يروي البعض أن معظم حالات الانتحار يكمن خلفها فشل عاطفي، أو خسارة مال، أو سقوط في امتحان الجامعة، أو أحياناً طرده من بيت الأسرة – وهذا يحصل في الغرب كثيراً – فالأسرة في الغرب ليست متضامنة أو متعاونة، وأحياناً، وفي البيت الواحد، كل واحد من ساكنيه مسؤول عن نفسه، الأب، والأم، والأبناء، وهذا ما يؤدّي كثيراً إلى الاصطدام بين أفراد أهل البيت، فالشعور بالإحباط والعزلة.. والخوف من المستقبل.
من قصص تلك الانتحارات ذلك السبب الواهي حين يخون عاشق حبيبته، أو يهجرها لأنه فضّل عليها صديقتها، أو بسبب صعوبة الحصول على المخدّرات المنتشرة في صفوف الشباب رجالاً ونساء.
لقد شغلت مشكلة الانتحار المجتمعات الأوروبية بشكل عام، وشرع العلماء يعالجونها من زوايا عدة، منهم مثلاً: “إميل دوركهايم” حيث وضع نظريتين: الأولى تتحدث عن علاقة وثيقة بين الانتحار وعدم القدرة على التكيّف الاجتماعي – في رسالة من جنيف كتبها تامر أبو العينين -: “وذلك عندما تفقد المجتمعات المعايير والقيم التي من المفترض أن تدعو إلى الترابط والتماسك” فكلما ضعفت تلك القيم – وأبرزها الإيمان بالله – ازداد الشعور بالانفراد والعزلة وحب الذات، فترتفع احتمالات إقدام الفرد على التلاعب بحياته والانتحار مباشرة عند تعرّضه لأي أزمة، إذ يعتقد المرء في هذه الحال أنه هو صاحب القرار في القضاء على حياته.
أما النظرية الثانية فتربط بين الانتحار والمتغيّرات السريعة التي تمرّ بها المجتمعات الغربية، وعدم قدرة الشخص على التكيّف معها، مثل الفشل في العثور على عمل، أو عدم تحقيق الأحلام والأمنيات المتعلقة بمستقبل أفضل.
ويبرّر الباحث تلك العلاقة بعدم قدرة المجتمعات الأوروبية على إيجاد روابط بين الناس تتماشى مع سرعة التحولّات التي تمرّ بها، ليس من الناحية الاقتصادية وحسب، بل أيضاً على صعيد العلاقات الأسرية والشخصية، بل حتى في الذهاب إلى الكنيسة – حيث الأغلبية الأوروبية تدين بالدين المسيحي – ولكن من عاش في أوروبا، وتجربتي الشخصية تدلّ على ذلك أيضاً – فإن معظم الكنائس تبدو يوم الأحد شبه فارغة، بينما نرى الأندية وشرب الخمر والقمار أكثر شيوعاً في هذا اليوم الذي هو العطلة الأسبوعية – لذلك يحدث نوع من الانفصال بين الشخص والدين وبين الشخص والمجتمع ولا يعود يجد رابطاً بينه وبين الآخرين، ثم يشعر وكأنه غريب ومعزول.
لكن البروفسور اندرياس ديكمان – وحسب الرسالة ذاتها – يرى في دراسة أعدّها عام 2000 لجامعة برن الشهيرة أن المجتمعات الأوروبية شهدت تحوّلات كبيرة من خلال تأثير الثورة الصناعية والمجتمع الاستهلاكي، ما جعل الحياة فيها معقّدة، فهناك من يحاول مسايرة تلك التركيبة المتداخلة، وهناك من يفشل ويعاني لتبدأ مراحل الاكتئاب تدريجياً وصولاً إلى الانتحار.
لا يظن أحد أن حياة الغرب هي الأفضل في العالم.. لقد عشت سنوات من عمري في لندن، وتنقّلت في أكثر من بلد غربي، نحن أفضل، صحيح أنه يلزمنا الكثير كي نصبح بمستوى الغرب من حيث تأمين حياة الفرد، لكن عندنا في بلادنا الطموح والكفاح، عدا عن أن المعيشة أرخص بكثير عندنا، نحن نشتري التفاح بالميزان، هم يشترونه بالقطعة، تفاحة أو تفاحتان أو ثلاث تفاحات.. وقس على ذلك الكثير.. الحياة عندنا أقل تعقيداً، أقل بهرجة، أقل إنجازات، لكن حياتنا أفضل، الأسرة المتماسكة، الأخوة والأخوات، الجيران، حتى إن الرسول العربي (ص) أوصى بالجار حتى سابع جار.
تلك الكآبة التي تؤدّي بشباب الغرب إلى الانتحار هي جزء من أمراض نفسية لا حصر لها، إنها إحساس بالقنوط أو اليأس، وفقدان احترام الذات، وانعدام الحماس أو الاهتمام بالمحيط، هناك مثلاً، وأيضاً أعراض فيزيولوجية تتجلّى في ضعف الشهية، الأرق، العلاج بالصدمة الكهربائية، أما الدواء والحديث عن العلاج النفسي، فيبدوان على القدر نفسه من الفعالية وانعدامها، بل اختلفوا حول تفسير الكآبة من الكيميائي إلى السيكولوجي.
كل ذلك ردّ فعل عن عالم محبط، نوع من السبات، أو شكل من أشكال قمع الذات.
نحن هنا، الإيمان بالله، نتحصّن فيه من كل هذه الأشياء التي تحبط ناس الغرب “هناك”، لنا الأمل، الحلم، الجنة القصيّة في مكان ما، إننا نعيش الحاضر، ونعيش الأمل، وما زلنا كلّما كبر إيماننا بالجنة التي إليها، في النهاية المآل. ما يجعلنا سعداء مهما عانينا من الحاضر.. ومهما يئسنا، وازداد بؤسنا.. لكن هناك حياة موعودة، حياة خالدة، ستجعلنا ننسى هذه الدنيا الفانية، ونركن إلى حياة أخرى لا نهاية لها، وفيها كل الخير.