ثورة أون لاين:
ما يميّز الحراك الثقافي والفكري في القرن العشرين المنصرم، منذ منتصفه إلى قبيل نهاياته، الحديث عن دور المثقّف وظهور الحركات الفكريّة والمدارس التي تُعنى بهذا الشأن، أدّى هذا الظهور إلى ثراء فكري وثقافي حقيقي، لم يقف في منطقة ما، بل تجاوز منبته، إلى أن يكون عالمياً، وإذا افترض أنّه نشأ غربيّاً لكنّه بسرعة كبيرة تجاوز الحدود، ووجد صداه في كل مكان.
وحتى لا نجلد أنفسنا كالعادة فالمفكّرون العرب، ولاسيما السوريين كانوا وراء عوامل اليقظة العربية التي بدأت مع مطلع القرن العشرين إلى منتصفه، هل نذكر: الكواكبي واليازجي، وجبران خليل جبران، ومحمد عبده، وغيرهم كثيرون لا يتّسع المجال لذكرهم..
الحال هذه ولّدت كما قلنا حراكاً وثراء بدوره حرّك الماء الراكض في الفكر، وجعل مواقف الكّتاب والمثقفين ذات قوة فاعلة في اتخاذ القرارات السياسيّة والاجتماعية، فكم من كاتب ومفكّر وقف ضدّ العدوان الغربي واتخذ مواقف حادّة منها، ولكنّ الأمر تغيّر اليوم تماماً، فمن يستعيد دور أرنست همنغواي، وجان جينيه، وأيلوار وآراغون ؟
الدور المهمّ الذي أدّاه هؤلاء المثقفون، جعل المفكّر السوري سعد صائب، يضع كتابه الجيّد (دور المثقفين في تجديد المجتمع) الكتاب الذي لا يتجاوز الخمسين صفحة، يوزّع سبعة نداءات هي التي أرادها أن تصل إلى مسامع المثقفين في الوطن العربي والعالم .
في النداء الأول الذي يبدأ به ويتوجّه إلى النخب المثقّفة يقول: أيها الإخوة المثقفون، حين أرسل فيثاغورس هتافه، “سأخاطب الحكيم فأبعدوا الجُهّال” الذي دوى في أرجاء أثينا، إنّما عنى مخاطبة النخبة في عصره، وفي كل العصور، لأنّها ملاذ الحكمة ودرعها الحصين، ولأنها مبدعة القيم وحارسها الأمين، ولعلّكم تتساءلون: أين نحن ومن تكون النخبة؟.
ليست النخبة أفراداً أفذاذاً، بما هم أفراد أفذاذ وطبقة مثقفون، بما هم طبقة مثقفون، إنها جسم حي ذو معرفة، وخلق في مستوى المصائر الكبيرة، واعٍ ذاته دوره في العالم ..
ويضيف: كما يقول اندريه جيد – ثمّة إمكانات عجيبة في كل إنسان وواجبكم – كمثقفين – إنماء هذه الإمكانات، وإتاحة الفرصة لها لأداء عملها من أجل خير المجتمع وسعادته، واجبكم تعليم مواطنيكم، كيف يحييون حياة كريمة وكيف يسعون إلى تطوير هذه الحياة، وإلى تذكيرهم بأنّ الفضيلة وحدها أساس النبل ودعامته، فليست الصفوة المختارة صفوة كما يقول آراغون إلا من حيث هي تعبير عمّا تستطيعون أن تسمّوه أمة أو شعباً، أو جماهير، فهي مرتبطة في الحياة والموت بمصير هذه الجماهير، وصيرورتها، وهي ترفض أن تكون في صف وأن تكون هذه الجماهير في صف آخر.
وهذا يعني أنّكم ملزمون بقضايا مجتمعكم والاهتمام بها، واتخاذ مواقف منها، يحمل هدفاً ذا قيمة يسمو بهذه القضايا.
إنّ مهمتكم الحقيقية نشر الثقافة والوعي بين مواطنيكم على أوسع نطاق، وإرشادهم إلى السيطرة على ظروفهم غير الملائمة، وتوعيتهم، ومن السمات التي لا بدّ منها أن تتسم بها واجباتكم حيال مواطنيكم وعيكم مرحلة الضياع التي يعانون، والحيلولة دون التمزق والقنوط اللذين يعيشونهما في مرحلة الانتقال هذه، ولا يجدون لها مخرجاً يفضي بهم إلى شاطئ وتجنيبهم أذاهما.
إن أصدق تعامل تبدونه، هو محافظتكم على أصالة أمتكم، وهذه الظاهرة – إن تحققت – هي أبرز معطيات ثقافتكم بل أهمها … ولن يتمّ ذلك إلا إذا ظللتم صادقين لذواتكم، أمناء لرسالتكم، كمثقفين منسجمين معها تؤدونها على خير وجه كيما تضيفوا إلى جملة تجارب أفراد مجتمعكم تجربة جديدة تغني حياتهم وتسمو بها ..
ولن يكون ذلك إلا إذا واجه كل فرد فيكم الحياة بثقافته واحتلّ مكانه الذي يدلّ على شخصيته، وعاش هذه الحياة لا مستكيناً لها، بل متحدّياً إياها.
إلا إذا آمن بأن الثقافة ليست ترفاً وسكينة أو خلوداً إلى الراحة، بل نضالاً دؤوباً لا يلين، لا يستكين، وليست زهوّاً أو خيلاء، بل أخلاقاً ومسؤولية، وأمانة في أعناق المثقفين الصادقين المخلصين الذين نذروا أنفسهم لخدمة أمتهم ووطنهم.
هذا بعض من نداء سعد صائب، فهل تغيّر النداء، وهل أستجاب المثقفون، ما الذي تقوله الحقائق والوقائع، ما الذي يقوم به المثقفون الآن، وكيف؟ أسئلة كثيرة، لا بدّ من طرحها والبحث عن مكامن إجاباتها، ولعلّ هذا يكون قريباً..