ثورة اون لاين – لميس علي:
“إن ما نملكه من وقت على الأرض ليس مديداً بما يكفي لاستنزاف أي شيء سوى ذواتنا”.
مقولة يذكرها إميل سيوران أثناء حديثه عن صامويل بيكيت ولا ندري هل كان انتماء أولئك الكتّاب والأدباء إلى ذواتهم أكثر من انتمائهم إلى كلماتهم..؟
لعل هذه الأخيرة تتماهى مع تلك الأولى فهي صادرة عنها وتعبر، نهاية، عن أفكار ذات المبدع، أديبا ً كان أم فيلسوفاً.
عندما وصفوا “حنا أرندت” بأنها كارهة لذاتها ردّت: “أنا لم أحب في حياتي أي شعب أو أي جماعة، لا الشعب الألماني ولا الفرنسي ولا الأميركي ولا الطبقة العاملة. وحدهم أصدقائي هم الذين أحبهم لأن حبّي الوحيد الذي أعرفه واقتنع به هو حب الأشخاص”.
ويصف “سيوران” علاقة “بيكيت” بالكلمات تلك العلاقة التي كانت نوعاً من انتماء فيقول: ” الكلمات ومن ذا الذي أحبها بقدره. إن الكلمات رفيقات دربه الوحيد فهذا الرجل لا يعتمد على أي من اليقينيات، إلا أنك تشعر بثبات رأيه فيما يخص الكلمات. لا شك أن نوبات إحباطه تتزامن مع اللحظات التي توقف فيها عن الايمان بالكلمات حين يتصور أنها تخونه وتهرب منه يظل عاجزاً قابعاً في اللامكان”.
هذا يعني أنهم استبدلوا أي مكان آخر يتواجدون ضمنه، أي مكان قادرٍ على احتوائهم، بالكلمات/الأفكار التي هي بيتهم الأوحد القادر على فهم ذواتهم والإخلاص لها. جعلوا من المكان/اللامكان حالة معنوية. الانتماء يغدو لديهم إلى شيء غير مادي ولا ملموس، ينتمون إلى الكلمات وينتمون الى الأشخاص.
لتصبح أفكارهم وكلماتهم مكانهم الأكثر رحابة.. والأقدر على احتواء جنون إبداعهم.. فنقلوها من حيز المعنويات إلى الماديات.
هي الرحم الذي لا يتنكر لوجودهم.
يبدو مألوفاً لديهم أن يكون الانتماء متعدداً ومتماهياً مع حالات انتماء أخرى.
وربما اخترعوا حالات منه وفقاً لعصف جنون أفكارهم التي ليست ظروف أي منهم بريئة في تشكيلها وبلورتها لتصبح أرضاً خصبة لقناعاتٍ.. ستشكّل لاحقاً أساساً لطروحاتهم الفريدة.
ألا يعتبر قول ذلك الشاعر الذي ذكره سيوران عن أننا يجب ألا نهدر وقتنا سوى على “ذواتنا”، نوعاً من المغالاة في حب الذات وصولاً إلى درجة الأنانية؟
هل أثّرت علاقة حنا أرندت بمارتن هايدغر على آرائها ومواقفها تجاه مفهومها للانتماء أو حبها للشعوب؟
لتصبح لاشعورياً غير مقرّة سوى بحبّها للأشخاص أو الأصدقاء على حد تعبيرها. وربما كان لانتقاد سيوران ضعف بلده تأثيرٌ في موقفه من الأوطان.. فمعروف أنه كره ضعف بلاده رومانيا..
يبقى المحير، أنهم يطلقون أحكاماً ويتبنون قناعات.. في الوقت الذي أعلن فيه المشاغب سيوران: “لا يمتلك قناعات إلا ذاك الذي لم يعمّق شيئاً”. وهي بذرة تناقض لعله لم يضعها في حسبانه.. أو ربما اعتقد أنه أخرج نفسه من دائرة تأثيرها.
تبدو الحالة مربكة.. وشائكة.. فهل يعني امتلاك قناعات البقاء على السطح دون الغوص في عمق الأشياء؟
ألم تتحوّل أفكارهم في مختبرات عقولهم، إلى قناعات عملوا على تسجيلها ومن ثم نشرها؟
وكيف يمكن البقاء على مسافة حياد واحدة من مختلف الأفكار التي نختبرها.. دون أن نتورط في امتلاكها كقناعات؟