الملحق الثقافي:سلام الفاضل:
النحت لغةً هو مصدر الفعل نحت ينحت نحتاً، أي شقّه وبراه، وهذبه. وهو اصطلاحاً: استخراج كلمة واحدة من كلمتين أو أكثر. وظاهرة النحت هي ظاهرة لغوية معروفة في لغتنا، وهي تعدّ من مظاهر التوسع في العربية، وتدل على مرونة هذه اللغة، ومواكبتها للعصور على تتابعها، وهي سُنة من سنن العرب في اشتقاق الكلام وتوليد بعضه من بعض.
وظاهرة النحت لم تقف على صياغة كلمة من كلمتين فقط، إنما أفرزت كثرة استعمال بعض الألفاظ والعبارات منحوتات جديدة لم يعرفها القدماء، الأمر الذي دلّ على عبقرية العربية ومناسبتها لكل زمان ومكان. وانطلاقاً من هذه الأهمية التي حظي النحت بها، وكثرة الجدالات التي أثارها علماء اللغة المحدثون حوله، جاء كتيب (ظاهرة النحت في العربية)، تأليف: د. سكينة محمود موعد، والصادر مؤخراً ضمن سلسلة “قضايا لغوية” عن الهيئة العامة السورية للكتاب.
أغراض النحت وطرقه
يخوض هذا الكتيب في ظاهرة لغوية معروفة في لغتنا، وهي ظاهرة النحت أو الاشتقاق الكبّار، مبيّناً أن للنحت أغراضاً عدة، منها: تيسير التعبير بالاختصار والإيجاز، وعدّه وسيلةً من وسائل تنمية اللغة وتكثير مفرداتها؛ حيث اشتقاق كلمات حديثة لمعان حديثة، ليس لها ألفاظ في اللغة، ولا تفي كلمة من الكلمات المنحوت منها بمعناها.
كما ويعرض كذلك لطرق النحت، التي تتم من خلالها هذه العملية، ومنها: إلصاق الكلمة بالأخرى دون تغيير شيء بالحروف والحركات، نحو: البرمائي.
أو تغيير بعض الحركات دون الحروف، نحو: شَقَحْطَب، من: شق حطب.
أو إبقاء إحدى الكلمتين كما هي واختزال الأخرى، نحو: مُشلوز، منحوت من المشمش واللوز.
أو إحداث اختزال متساوٍ في الكلمتين، فلا يدخل في الكلمة المنحوتة إلا حرفان من كل منهما، نحو: تعبشم، من عبد شمس.
أو إحداث اختزال غير متساوٍ في الكلمتين، نحو: سبحل، من قال سبحان الله.
أو حذف بعض الكلمات حذفاً تاماً دون أن تترك في الكلمة المنحوتة أي أثر، نحو: طَلبق – أي أطال الله بقاءك -.
مذهب ابن فارس في النحت
يُعد ابن فارس إمام القائلين بالنحت بين اللغوين العرب المتقدمين، فهو لم يكتف بالاستشهاد على هذه الظاهرة اللغوية بالأمثلة القليلة الشائعة التي ربما لا تجاوز الستين عدداً، بل ابتدع لنفسه مذهباً في القياس والاشتقاق حين رأى أن الأشياء الزائدة على ثلاثة أحرف فأكثرها منحوت. وقد بنى معجمه “المقاييس” على هذا المذهب، وأراد أن يرسم للقارئ منهجه في النحت، فقال: “اعلم أن للرباعي والخماسي مذهباً في القياس، يستنبطه النظر الدقيق. وذلك أن أكثر ما تراه منه منحوت”.
بيد أن ابن فارس كان بعيد النظر ثاقب الفكر حين نبّه على أن الرباعي لا يفسر دائماً بظاهرة النحت؛ لأنه على ضربين: “أحدهما: المنحوت الذي ذكره، والضرب الآخر: الموضوع وضعاً لا مجال له في طريق القياس”.
وابن فارس نفسه حين أنشأ يذكر في “المقاييس” أمثلته على نحت الرباعي من كلمتين ثلاثيتين، إنما استهل هذه الأمثلة بلفظ “البلعوم”، وجعله وما أشبهه توطئة لما بعده، وبات لا فرق عنده – قياساً على هذا – بين رباعي كان في الأصل ثلاثياً ثم زيد عليه حرف في آخره أو أوله أو أوسطه، ورباعي آخر مستخرج على طريقة النحت من ثلاثيين اختزلا معاً، أو اختزل أحدهما دون الآخر، أو أحدهما أكثر من الآخر. فهذا وذاك إنما تم الأمر فيهما بهذه الوسيلة الرائعة من وسائل الاشتقاق وهي النحت.
وإضافة إلى ابن فارس فقد كان للنحت أنصار من أئمة اللغة في جميع العصور، وكان الناس كلما امتد بهم الزمن، ازداد شعورهم بالحاجة إلى التوسع في اللغة عن طريق هذا الاشتقاق الكُبّار؛ فهذا هو الإمام النحوي المشهور الظهير بن الخطير النعماني، من علماء القرن السادس الهجري، يملي من حفظه في نحو عشرين ورقة “كتاب تنبيه البارعين على المنحوت من كلام العرب” عندما سأله الشيخ أبو الفتح عثمان عما وقع في ألفاظ العرب على مثال “شَقَحْطَب”.
النحت عند المحدثين
تنبه علماء اللغة المحدثون إلى فن النحت، وربطوه بالاشتقاق، وجعلوه لوناً من ألوانه ومن عوامل تنمية اللغة.
ولهذا نجد أن أكثر كتب المحدثين التي تناولت عوامل تنمية اللغة والاشتقاق تكلمت على النحت.
وقد فصّل د. مزيد نعيم في موقف علماء اللغة المحدثين من ظاهرة النحت، فقال ما نصه: “لم تتفق كلمة المحدثين في تفسير ظاهرة النحت؛ بل اختلفوا فيها شأنها في هذا شأن الظواهر اللغوية الأخرى، وقد انقسموا إزاء هذه الظاهرة إلى فريقين:
فريق سلك مسلك ابن فارس في النحت،
وفريق آخر يرى أن ابن فارس قد تكلّف وتعسّف”.
وعلى الرغم من الاهتمام الذي أحاط بظاهرة النحت في العصر الحديث قياساً بالعصور السابقة، إلا أن العربية أهملت فيما بعد هذه الطريقة في توليد الألفاظ الجديدة، وسلكت طريق الاشتقاق وهي طريقة أدلّ على الحيوية، وأشبه بطريقة توالد الأحياء في زيادتها ونموها، بخلاف النحت الذي عُدت طريقته أشبه بطريقة الجوامد في الزيادة والنمو عن طريق اللصق والإضافة.
ومع ذلك فقد أجاز النحت بعضُ علماء العربية، كما وأجازه مجمع اللغة العربية بعد جدل طويل بين أعضائه، وتم تحديد جوازه بشروط، منها: الضرورة – مراعاة أساليب العرب في النحت – التناسب الصوتي.
التاريخ: الثلاثاء21-7-2020
رقم العدد :1006