الملحق الثقافي:
منذ بدايات القرن العشرين كانت اللغة العربية موضع اهتمام الكتاب والنقاد بعد التخلص من لوثة التتريك، ومن الطبيعي أن تتضافر الجهود للنهوض بها، وكانت مجلة الهلال المصرية قد توجهت بأسئلة حول مستقبل اللغة العربية لعدد من الكتاب والشعراء، ومن هؤلاء جبران خليل جبران المجدد في كل شيء، وحول سؤال: ما هو مستقبل اللغة العربية؟ قال جبران خليل جبران:
إنّما اللغة مظهر من مظاهر الابتكار في مجموع الأمة، أو ذاتها العامّة، فإذا هَجَعت قوّة الابتكار، توقَّفت اللغة عن مسيرها، وفي الوقوف والتقهقر الموت والاندثار.
اذاً فمستقبل اللغة العربيّة يتوقّف على مستقبل الفكر المبدع الكائن – أو غير الكائن – في مجموع الأمم التي تتكلّم اللغة العربيّة. فإنْ كان ذلك الفكر موجوداً، كان مستقبل اللغة عظيماً كماضيها.
وما هذه القوّة التي ندعوها قوّة الابتكار؟
هي، في الأُمّة، عزم دافع إلى الأمام، وهي، في قلبها، جوع وعطش وتوق إلى غير المعروف، وفي روحها، سلسلة أحلام تسعى إلى تحقيقها ليلاً ونهاراً، ولكنّها لا تحقّق حلقةً من أحد طرفيها إلا أضافت الحياة حلقة جديدة في الطرف الآخر.
هي، في الأفراد، النبوغ، وفي الجماعة، الحماسة، وما النبوغ في الأفراد سوى المقدرة على وضع ميول الجماعة الخفيّة في أشكال ظاهرة محسوسة. ففي الجاهليّة كان الشاعر يتأهَّب لأن العرب كانوا في حالة التأهّب، وكان ينمو ويتمدّد أيّام المخضرمين لأنّ العرب كانوا في حالة النمو والتمدّد، وكان يتشعَّب أيّام المولَّدين، لأنّ الأُمة الإسلامية كانت في حالة التشعّب. وظلّ الشاعر يتدرّج، ويتصاعد، ويتلّون فيظهر آناً كفيلسوف، وآونة كطبيب، وأخرى كفلكيّ، حتى راود النعاس قوة الابتكار في اللغة العربّية، فنامت، وبنومها تحوَّل الشعراء إلى ناظمين، والفلاسفة إلى كلاميين، والأطباء إلى دجّالين، والفلكيون إلى منجِّمين.
إذا صحّ ما تقدمَّ، كان مستقبل اللغة العربيّة رهن قوة الابتكار في مجموع الأمم التي تتكلّمها، فإن كان لتلك الأمم ذات خاصة (ووحدة معنويّة) وكانت قوّة الابتكار، في تلك الذات، قد استيقظت بعد نومها الطويل، كان مستقبل اللغة العربيّة عظيماً كماضيها وإلاّ فَلا.
تفجر الأسلوب
وحول هذا الرأي كتب أحمد فرحات في موقع اللغة العربية قائلاً:
لغة جبران خليل جبران متميّزة جداً، اشتقاقاً وتفجراً أسلوبيّاً جديداً في دلالته وألفاظه وتقطيعه الموسيقي وكذلك في الصور المبتكرة التي تحملها الكلمات بسهولة وعذوبة أخّاذة. ولذلك اعتبره الشاعر أدونيس بوابة الشعر العربي الحديث: «مع جبران تبدأ في الشعر العربي الحديث الرؤيا التي تطمح إلى تغيير العالم، فيما تصفه أو تندبه أو تفسره. مع جبران يبدأ بمعنى آخر الشعر العربي الحديث. ففي نتاجه ثورة على المألوف آنذاك من الحياة والأفكار وطرائق التعبير». أما الشاعر أنسي الحاج فاعتبر جبراناً «أول المحدثين، والتي لا تزال لغته إحدى أمهات لغات الحداثة».
من جانب آخر يرى البعض أن الّلغة العربية في أسلوبية جبران تمثّل حدثاً اجتماعياً، وقعاً جديداً، حيث وقف جبران على أسرار هذه الّلغة وغناها وتفاعلها الاجتماعي ومضمونها المعرفي، الأمر الذي جعله يعتبرها إحدى أكمل الّلغات في العالم.
وهذا سرّ نجاحه في إنتاج أدب متجدّد بتجدّد الجماعة الثقافية عينها، فابتكر جبران من داخل الّلغة، أضاف إليها ولم يتجاوزها. جدّد وطوّر في متحوّلاتها المطلوبة اجتماعياً وتمسّك بثوابت بنيانها المرصوص تاريخياً.
دور اللغة
لقد أفصح جبران عن وعيه بدور الّلغة العربية في أدبه وثقافته قائلاً في معرض ردّه عن أسئلة مجلة «الهلال» حول «مستقبل الّلغة العربية»، (في عددها الـ 23 الصادر في العام 1920 من القرن الفائت): «ففي الّلغة العربية قد خلقت لغة جديدة داخل لغة قديمة كانت قد وصلت حدّاً بالغاً من الكمال». وقال: «لم أبتدع مفردات جديدة بالطبع، بل تعابير جديدة واستعمالات جديدة لعناصر الّلغة».
ويتساءل جبران عن هذه القوة التي يدعوها قوة الابتكار، فيحدّدها بأنها في الأمة «عزم دافع إلى الأمام». وفي الأفراد «هي النبوغ، وفي الجماعة هي الحماسة، وما النبوغ في الأفراد سوى المقدرة على وضع ميول الجماعة الخفيّة في أشكال ظاهرة محسوسة».
لغة الضاد
وانحياز جبران للغة الضاد والتجديد الإحيائي فيها، لا يعني في المقابل أنه كان يتنكّر للهجات العامية في الأقطار العربية، معتبراً أنها «مصدر ما ندعوه فصيحاً من الكلام ومنبت ما نعدّه بليغاً من البيان»، مؤكّداً «أن الّلغات تتبع مثل كلّ شيء آخر، سنّة بقاء الأنسب؛ وفي الّلهجات العامية الشيء الكثير من الأنسب الذي سيبقى، لأنه أقرب إلى فكر الأمة وأدنى إلى مرامي ذاتها العامة. قلت إنه سيبقى، وأعني بذلك أنه سيلتحم بجسم اللغة ويصير من مجموعها».
وبخصوص مسألة إحياء الّلغة العربية قال جبران لـ «الهلال»: «إن الوسيلة الوحيدة لإحياء الّلغة العربية إنما تكمن في قلب الشاعر. فالشاعر هو أبو اللغة وأمها. وإذا ما قضى، جلست على قبره باكية منتحبة، حتى يمرّ بها شاعر آخر ويأخذ بيدها».
وقال أيضاً بخصوص انتشارها ورسوخها: «لا يعمّ انتشار الّلغة العربية في المدارس حتى تصبح المدارس ذات صبغة وطنية مجرّدة، وحتى تُعلّم بها جميع العلوم وحتى تنتقل المدارس من أيدي الجمعيات الخيرية والّلجان الطائفية والبعثات الدينية إلى أيدي الحكومات المحلية».
هذا هو جبران خليل جبران.. خلطة عجيبة من الشعر، والإحياء الّلغوي، والتصوّف الأسطوري، والفلسفة المؤسّسة على بناء الروح، وهندسة المحبة، ودمج اللوغوس (العقل الكلّي) بالكاوس (العالم الفوضوي الخام).. علاوة على المعرفة الحدسية الرؤيوية الآيلة إلى تجديد الحياة بإنسانها وكائناتها ومظاهرها كافة.
التاريخ: الثلاثاء21-7-2020
رقم العدد :1006