في وقت متقارب، فقدت الحياة التشكيلية في سورية ثلاثة من أسمائها التاريخية: أسعد زكاري، وعبد الحي مسلم، وعاصم زكريا، وقد مثّل كل واحد منهم تجربة ذات خصوصية فريدة ومميزة كان لها حضورها الاستثنائي.
عن تسعين عاماً رحل عن دنيانا الفنان التشكيلي أسعد زكاري، ولولا خبر نشرته صفحة (تَكوّنْ الفن التشكيلي الحديث في سورية) على الفيسبوك، أتبعته بصور عدد من لوحاته، ومادة نقدية توثيقية نشرها النحات والناقد غازي عانا على صفحته الشخصية، لولا هذان الأمران لمرَّ خبر رحيله بصمت كما كان حاله هو في معظم حياته، وخاصة في السنوات الأخيرة منها.
لا نعرف الكثير عن العقدين الأوليين في حياة أسعد زكاري، غير أنه ولد في دمشق عام 1930، وسافر إلى الإسكندرية عام 1952 لدراسة الهندسة، هناك استجاب لميوله الفنية فتدرب على رسم الموديلات الحيّة في مرسم الفنان الإيطالي (اوتورينو بيكى) خلال العامين الأولين لإقامته في الإسكندرية، ومن ثم بدأ بالتردد على مرسم الفنانين سيف وأدهم وانلي اللذين كانا بدورهما قد درسا الفن في مرسم بيكي في النصف الأول من ثلاثينيات القرن الماضي، قبل أن يفتتحا مرسمها الخاص المشترك في منتصفها، وقد تأثر زكاري بتجربة سيف وانلي الحداثية، وخاصة أنه كان قد أحاط بالاتجاه التقليدي في تاريخ الفن، معرفة وممارسة، وقد بدا تأثير وانلي واضحاً في معرض (اسكندراني) جمع زكاري مع اثنين من الفنانين المصرين، وكذلك في معرضه الشخصي الأول في صالة الصداقة الفرنسية بالإسكندرية، دون أن يعني ذلك بحال من الأحوال اختفاء خصوصية التلميذ خلف خبرة أستاذه، غير أن الحدث الأهم في سيرة أسعد زكاري كان يوم أقام معرضه الفردي الأول في المتحف الوطني بدمشق عام 1956، إذ أحدث هذا المعرض صدى واسعاً في الوسط التشكيلي بفضل الروح الجديدة التي عبّر عنها في البحث عن أشكال أكثر حداثة، مع المحافظة على تماسك الخطوط ونقاء الألوان، وخاصة لوحة(العذراء) التي سبق أن عرضها في معرض الأصدقاء الثلاثة في الاسكندرية وحظيت باهتمام إعلامي خاص، ولم يشارك أسعد زكاري في المعرض السنوي حتى عام 1959 (معرض الربيع والخريف) ولقيت مشاركته الصدى ذاته الذي لقيه معرضه الفردي، حتى أن الكتاب الذي أصدرته وزارة الثقافة عن المعرض السنوي منذ تأسيسه عام 1950 قد أفرد مساحة خاصة لسرد سيرته الذاتية المختصرة ضمن ثلاثين مصوِّراً من أصل 148 فناناً شاركوا في المعرض منذ تأسيسه حتى ذلك العام.
عن 87 عاماً رحل في عمّان الفنان الفلسطيني – السوري عبد الحي مسلم، الذي ولد في قرية الدوايمة (محافظة الخليل) بفلسطين المحتلة عام 1933، وتوزعت حياته ما بين فلسطين وسورية والأردن. عبّرت موهبة عبد الحي مسلم عن نفسها في وقت متأخر، حيث اختار تقنيته الخاصة التي صارت علامة مميزة لأعماله، وهي تقنية الرسم الملون على سطوح النحت الجداري البارز (الرولييف) التي يصنعها بمزج عجينة من نشارة الخشب والغراء فينتج عنها سطح في غاية الصلابة، والصعوبة. إلا أن تقنيته الفريدة لم تكن العلامة المميزة الوحيدة لأعماله وإنما أيضاً مواضيع تلك الأعمال التي تصور طقوس الحياة اليومية في الريف الفلسطيني، مع استحضار للرموز البصرية للثقافة الفلسطينية الشعبية بأسلوب صُنف غالباً تحت عنوان الفن الفطري، وقد عرض أعماله في عشرات المعارض الفردية والجماعية موثقاً هذا التراث الشعبي الثري، (إضافة فاصلة هنا) فوُصف بأنه سادن الفن الفلسطيني، حسب تعبير الفنان والناقد التشكيلي الدكتور غازي انعيم، أو حارس الذاكرة الفلسطينية حسب وصف آخرين.
وعن 83 عاماً توفي الفنان عاصم زكريا يوم الأحد الماضي، فقد ولد عام 1937 في حي ساروجة على عتبات دمشق القديمة في بيت مسكون بالثقافة والانتماء الوطني، فجده كان ضابطاً انضم مبكراً للجيش السوري وشارك في معركة ميسلون وأصيب خلالها بعدة إصابات دفعته للتفرغ للفن، أما جدته فكانت تعزف على آلة العود، وكانت مكتبة المنزل تحفل بعدد كبير من الكتب بلغات عدة حول الأدب والفن والثقافة، وكان والده المدرس في دمشق يتقن اللغتين الإنكليزية والفرنسية، إضافة لإتقانه العزف على البيانو، وقد ترجم له كتباً عن الفنون وتاريخها ومذاهبها، وصحبه إلى المكتبات للاطلاع على ما فيها من الكتب واقتنائها، وكما كان بيت عائلته مقصداً للوطنيين المكافحين ضد الاحتلال الفرنسي، كان كذلك بالنسبة للفنانين التشكيليين، وفي مقدمتهم توفيق طارق رائد الفن التشكيلي السوري المعاصر.
ورث عاصم زكريا عن جده جميع أدواته الفنية التي اشتراها بإشراف توفيق طارق، غير أن المصير المأساوي الذي انتهى إليه أبو الفن السوري دفع والد عاصم إلى منعه من متابعة لوحته الأشهر (ميسلون) بعد أن شرع بالعمل بها، حتى حصوله على الشهادة الثانوية، وإنجاز دراسة الحقوق، لكن الرسم ظل يسكنه وقد علمه الجَلَد والصبر، وجعله ينهي دراسته الجامعية بأربع سنوات دون أي تأخير، ليعود بعدها ويمنح جُلّ وقته للفن التشكيلي، ومع وفرة اللوحات التي رسمها عاصم زكريا عن الكفاح ضد الاحتلال الفرنسي، والتي سعى فيها لتوثيق كل التفاصيل حتى أصغرها، فإن لوحته (ميسلون) تبقى الأشهر والأهم. وكما تترجم هذه اللوحة خيالاته عن المعركة التي خاضها جده، فإن لوحاته عن دمشق القديمة تستحضر الصور التي شاهدها في طفولته وصباه، وهي مجتمعة منحت لوحات عاصم زكرياً نكهة منفردة، ومنحته حضوراً خاصاً في الفن التشكيلي السوري.
إضاءات- سعد القاسم