الثورة اون لاين – أديب مخزوم:
تتجه الفنانة التشكيلية يولا ميسر في لوحاتها، لتقديم رؤى فنية عفوية تزاوج ما بين التقنيات الحديثة والأحلام الشرقية (وخاصة في لوحات الأحياء القديمة) . وهي بذلك تفتح مساحات لوحاتها على احتمالات تعبيرية للوصول بالتأليف التشكيلي إلى تداخلات تعبيرية تعبر عن روح الفنون الحديثة والمعاصرة، على اعتبار أن الداخل فسحة للهواجس والرموز الذاتية، والخارج فسحة لإعادة توازن المنطق التشكيلي المستمد من معالجة الأشكال الواقعية. فاللوحة عندها تستعرض إيقاعات الأشكال والألوان، من خلال الجنوح في أحيان كثيرة، نحو مظاهر دمج الشكل الواقعي بمزيد من البنى التشكيلية الحديثة، لإعطاء المدى التصويري إضاءات تشكيلية معاصرة، وبالتالي لبلورة المظاهر المميزة لإيقاعات البنى الهندسية (المربع، المستطيل، الخطوط الشاقولية، الزوايا..) التي تحدد شكل البيت أو الحي ، وفي هذا الإطار نجد حالات التفاعل بين الخطوط والإيقاعات ودرجات اللون وتشعبات الخطوط الأفقية والشاقولية .
تنوع تقني
وهي تخوض غمار تجربة فنية منذ قدومها من محترفات كلية الفنون الجميلة في دمشق، وتطرح جماليات التفاعل مع مختلف التقنيات والأساليب، متدرجة من أدق درجات الواقعية( التي نجدها في لوحات الأسماك) إلى أقصى حالات التجريد اللوني ( المقروء في خلفيات بعض لوحاتها) مروراً ببعض الأعمال الخيالية والسوريالية، التي تحمل تأثيرات من تجربة والدها الفنان الراحل عدنان ميسر ( رائد الرسم السوريالي الحديث في سورية) .
ولوحاتها وإن اقتربت من التجريد في بعض المقاطع، إلا أنها تبقى على اتصال بعناصر أو بإشارات الأشكال الواقعية، حيث تجسد لوحاتها أشكالا من الواقع ( مثل مشاهد الطبيعة والعمارة القديمة..) فلوحاتها في حالاتها المختلفة تتدرج بين اللمسة الواقعية وتفتح الرؤية التعبيرية واللمسات الضوئية التي فيها شيء من الانطباعية .
هكذا تختصر يولا أشكالها إلى لمسات شاقولية وأفقية في لوحاتها المعمارية، وإلى لمسات وحركات لونية عفوية متتابعة في لوحات الطبيعة والرؤى الخيالية ( مثل لوحة الرجل العنكبوت ) وتقدم عناصرها، من خلال تقنية مستحدثة تكشف طبقات اللون إلى درجة التركيب التراكمي في جزء أو أكثر من اللوحة، في حين يشف اللون في أجزاء أخرى من لوحاتها .
بين التشفيف والتسميك
وتشكل لوحاتها بإحساس وعاطفة وانفعال رغم مظاهر العقلنة الناتجة عن المساحات الهندسية ، التي تعمل من خلالها لإظهار عنصر الموازنة والمواءمة بين المساحة والأخرى في اللوحة الواحدة.
وهي تتجه إلى تغييب الأشكال المتداولة مع الإبقاء على روحها فقط، ويزداد هذا الشعور كلما ذهبت بألوانها نحو التسميك وإبراز خشونتها وتقديم لمسات انفعالية مفتوحة على معطيات ثقافة فنون العصر.
فالبحث عن نسيج لوني عفوي فتح لوحات يولا ميسر على احتمالات تشكيلية حديثة، تستفيد من التعبيرية في مظاهر تحوير الأشكال والذهاب بها إلى حالات التبسيط والاختصار، وتستفيد من التجريدية في مظاهر الانحياز نحو المساحات اللونية التي تعمل على تغييب أشكال الواقع في بعض الخلفيات، لتصل في نهاية المطاف نحو صياغات فن الإشارة، في احتمالاتها الخيالية والرمزية والدلالية، التي تكشف في جوهرها عن هاجس التعبير عن الحركة الداخلية ، بإيقاعات لونية عفوية أحياناً وهادئة أحياناً أخرى . ومع ذلك تطمح إلى أن تكون لوحتها مدروسة وموزونة وبالتالي بعيدة عن الصياغات العبثية ومعطيات الصدفة.
وبذلك تقيم حواراً بين التآليف العفوية والهندسية، رغم ما تبرزه من تحرر ألوانها من تلك السلطة الهندسية المعتمدة ضمن إطار اللوحة. وهي حين تعمل على تحويل الصورة الواقعية إلى رموز تشكيلية تتكرر من لوحة إلى أخرى فإنها تعكس هواجس شاعرية وغنائية مرتبطة بجماليات اللوحة الحديثة والمعاصرة، وهذا يفتح الباب على مصراعيه أمام التحليل والاجتهاد والتأويل اللامحدود.
اختصار الشكل
وهكذا تعمل يولا ميسر لإظهار قدرتها على إيجاد إضافات جديدة لمنطلقات الدمج ما بين التراكمات الثقافية، التي عالجت قضايا التعبير عن إمكانية استلهام التراث المعماري بأشكال معاصرة، فالطرح التراثي مفتوح على نسيج احتمالات هذا الشغف اللامتناهي بمعالجة البنى التراثية التي تكشف عن علاقتها برموز الأشكال البصرية القديمة، هذا يعني أن لوحاتها تتحول من الهندسة المنضبطة إلى الهندسة العفوية أو اللونية التي تعكس رموز الأزمنة المعاصرة.
فالبحث عن مناخات مختصرة لتكاوين الأشكال تشكل في لوحاتها هواجس لاختبار الإيقاعات التشكيلية المتداولة في الفن الحديث والقائمة على إلغاء الثرثرة التفصيلية وإعطاء أهمية قصوى للإيقاع اللوني والإبقاء على جوهر الحركة العفوية التي تجسد روح الشكل الواقعي بعد إزالة تلافيف قشوره الخارجية.
من ناحية أخرى تتعامل مع إيقاعات الألوان المتحررة بعفوية بارزة تحمل ملامح وأجواء شرقية
مستشفة من الذاكرة من خلال إبراز إضاءة اللون وصراحته بشاعرية مرهفة، فهي تبحث في الإقامة والاغتراب عن اشراقة أمل وفجر جديد في استعادة ألوان الشرق الزاهية، كأنها تسعى وراء كشف الحقائق والإشراق اللوني المفعم بحب الحياة. وهي بذلك تعمل على إيجاد نوع من الموازنة والمواءمة بين الجانب التعبيري المتمثل بتبسيط الأشكال وإبراز انفعالية اللون وبين الجانب التجريدي للوصول إلى إيقاعات اللون أو ما يسمى بموسيقى اللوحة وتقاسيمها المرئية المسموعة بالعين.