لكل مرحلة زمنية مواصفاتها الخاصة بها، وثرواتها التي تنمو في مجالات دون أخرى، وها نحن في عهد الرقمية قد فُتحت أمامنا أبواب جديدة لمصادر الثروات.. فمجالات الرقمية ليست فقط في الابتكار بل إنها أيضاً في الاستثمار، والانتشار.. والأفكار تنبت كما الأزهار في حقول الحياة، وفكرة كما زهرة برية نبتت، ووجدت لها مَنْ يرعاها ليكتمل نماؤها فظهرت مواقع التواصل الاجتماعي، ومبتكر أشهرها أصبحت ثروته تُعد بمئات المليارات من الدولارات.
صحيح أن الثروات الكبيرة تتضاعف في استثماراتها، ومن تلقاء ذاتها لتأتي بالمزيد والمزيد من الأموال، لكن للظروف العالمية مفاعيلها في أن تزيد، وتسرّع من نماء بعضها، ولو على حساب غيرها من رؤوس الأموال الأصغر منها.. وهذا ما يحصل الآن في ظل الوضع الاقتصادي القائم تحت تأثير الجائحة العالمية لتتعاظم استثمارات مَنْ يعملون في المجال الرقمي، وهي تعود على أصحابها بعشرات المليارات الجديدة خلال شهور قليلة ما دام أهل الأرض جميعاً باتوا يعتمدون على شبكة المعلومات في التسوق، وفي التعليم، وفي منافذ العمل، وغيرها تجنباً للتجمعات البشرية في سبيل الوقاية الصحية.. ولتتبدل مواقع أثرياء العالم في قائمة الثراء بين مَنْ كان في قمة القائمة، ومَنْ كان في آخرها، وفي إعادة توزيع للأرقام غير المسبوقة التي ما زالت في تصاعد، بينما الأموال تنتقل من أيدٍ الى أيدٍ في تفاوت طبقي جديد قد بزغ فجره.
كل هذا مما هو متوقع.. لكن مجالات استثمار هذه الأموال الهائلة مستقبلاً لتتعاظم أكثر فأكثر ربما هو من غير المعروف، أو المتوقع.. إذ هل هي ستتوجه نحو مزيد من غزو الفضاء، أم ستكون في سبيل إنقاذ ما أفسده الإنسان من جسد الأرض، أم أنها ستقوم باستثمارات تنافسية جديدة تخلق فرص عمل لم تكن قائمة من قبل لعلها في الخير، أو في الشر، مَنْ يدري؟!.. أم أن تلك الثروات المتنامية ستكون فقط سبباً ليزداد الأغنياء غنى بينما الأيدي تقبض بشدة على مكاسبها وهي تتضاعف، وتنمو مع ما يتبع ذلك من قوة، ونفوذ كبيرين، بينما يزداد الفقراء فقراً، بل ربما سقطوا من طبقتهم الاجتماعية إلى طبقة اجتماعية أدنى بسبب العوز، والفقر. والمليونيرات الذين استفادوا من جائحة (كورونا) يتطلعون إلى عتبة أعلى من الرفاهيىة مقابل ازدياد بؤس الشريحة الأكبر من الناس؟!
ترى هل سيُفرز العالم بشكل حاد إلى أناس فائقي الثروات، وآخرين لا يملكون شيئاً سوى أجسادهم الهزيلة ليعيشوا بها في واقع سيصبح غير عادل إلى حد كبير؟.. ربما يحدث هذا في انحراف أبعد ما يكون عن يوتوبيا (أفلاطون) ومدينتة الفاضلة ليتحول العالم إلى المدينة الفاسدة في ظل تفاوت اقتصادي مفجع يتبعه تفاوت طبقي هائل سيصل العالم إليه بعد انتهاء الجائحة، ولو أن التفاوت الطبقي بين فئات البشر نتيجة فجوة الثروة ليس بجديد، وهو قائم منذ أقدم العصور، وعندما كتب (أفلاطون) عن المدينة الفاضلة لم يكن ليتوقع تفاوتاً طبقياً حاداً إلى هذه الدرجة سينشأ في عصور مقبلة، كما من الممكن أن يكون عليه الحال في المستقبل، وأن مساحة شاسعة ستفصل فجوتها بين الغني والفقير ربما.
وبينما يخطط مليارديرات (كورونا) كيف سيهربون إلى الهدوء في جزر (الماليدف) حيث يُرفع شعار: (لا أحذية، ولا أخبار في منزل بعيد عن المنزل) وذلك في إشارة للتحرر من كل قيود المال الذي يتطلب شركات، وموظفين، ومتابعات، وتبِعات، ولقاءات، واجتماعات، من أجل استثماره، بينما الأصفار تتضاعف إلى جانب الرقم الصحيح للأرباح، وهي تحتاج الى ألف عمر وعمر لصاحبها حتى ينفقها، أو أن ينفق جزءاً منها، أقول بينما هم كذلك فإن ملايين البشر في الطرف المقابل يترصدون الأخبار للبحث عن وظائف، وفرص للعمل بعد أن فقدوا وظائفهم، وهم يتنقلون بين مكان وآخر حتى تكاد تبلى أحذيتهم.
أما كان من الأحرى بأصحاب الثروات الكبرى أن يجعلوا بأموالهم العالم بأسره أكثر هدوءاً بدل أن يكون الهدوء في بقعة واحدة فقط يفرون إليها.. لكن.. ربما هي متعة تضاعف الأرقام بحد ذاتها ما تجعل العالم أقل سعادة.
(إضاءات) ـ لينـــــــا كيــــــــلاني
* * *