ثورة اون لاين – هفاف ميهوب:
زمنُ الأفول للحياة والإنسانية وطمأنينة الروح وإشراقة العقول.. إشراقتها بالأمل المتمدّد في قصيدةٍ، تصرُّ رغم الظلام على أن تصحو متعافية.. تحاكي الفضاء، فيرتد النداء: “من شرفة الصباح/ الشَّمس كنسرٍ هَرِم/ يَخبطُ جناحيه/ على هواءٍ لزج/ تحت سماءٍ صافية”..
هذا أول ماتقرأهُ في ديوانٍ، هكذا وصف الشاعر “هادي دانيال” شمس الحياة فيه، ليكون اختياره للعنوان، من هذا الوصف الذي يليه “الآخرون”.
لا داعي لأن نسأل عمن قصدهم، ولاسيما بعد أن اقتبس عن “سارتر” قوله بأنهم “الجحيم” ليحذِّر بعدها منهم:
“إياكَ أن تكون يدهم/ فقطعُها محتَّمٌ/ “ماهَمَّ من هُمُو..”/ أقربهم إليك زئبقٌ/ أدرْ إليهم الدَّهر وانطلق/ لا تلتفت إذا تنافجوا/ وإن تهكَّموا/.. قدَّامك الأفق/ وهم إلى الجحيم سُلَّم”..
لقد عرفناهم، وعرفنا مقدار ماأشعلوا من حرائق جعلت الحياة تلتهب والأرواح تغترب، الشاعر يغضب والشعر يرقب. يرقب بشاعات “قادت شعارات حقوق الإنسان، ونهيق مطالبها إلى الذلِّ الكبير”..
/على هذه الأرض ذلٌّ مقيم/ أنطردهُ بالشعاراتِ من دمنا/ والشعار يقود إلى معلفٍ من شعير/ والنهيقُ ذميم؟
إنه نهيق الخونة والعملاء والجبناء والمتآمرين، وسواهم ممن انقادوا للصهيونية المجرمة. الآفة التي تسعى لاحتلال الأوطان واستعباد الإنسان، وهو ما تشهد عليه أوطان كثيرة أولها فلسطين.
لكن، ولطالما هناك من يذودون عن كرامتهم ووطنهم بحماسة تتّقد بدماء المقاومين الشباب، كان لابدَّ من مواجهة هذه الآفة ولو بحجرٍ أو سكين تجعل المقاتل الشهيد “كشهابٍ في ضباب”.
/هذا الفتى لم يجئ من فتاوٍ تحيلُ البلاد إلى مقبرة../ كان قلبُ فلسطينَ لامسَ في لهفةٍ أضلُعهْ/ عندما وحدهُ كسرَ الدائرة/ وألقى بصاعقةٍ في المياه التي ركدت من عقودٍ/ .. وهو يطعنُ في الصدرِ والظهرِ والخاصرة/.
يؤكد “دانيال” هنا، بأنه شاعرُ القضايا الإنسانية والمصيرية. شاعر الهمِّ والوجع السوري، مثلما الحقّ المقاوم في كلّ بلدٍ عربي، يصفنا بـ “أحفاد سيزيف”.. سلالته التي توسدت الجبال، وأودعت أحلامها بين أكتافها، دون أن يبقى لها “غير نهري دمٍ ودموعٍ يفيضان منّا وعنّا”.
هي حقيقة وليست “رؤيا” وقد شهد عليها الواقع الدموي.. حقيقتنا الملتفة علينا وتنبش فينا. تنبش “بين تاج خفي وصليبٍ هائل” عن قابيل الذي هو قبعة إخفاء، يرتديها “الغول القادم ريحاً صفراء/ من كهوف الظلام الأمريكي/..
كم نحتاج إلى ولادةِ الحياةِ من جديد بعد هذا “المخاض” الذي استنزفَ راحتنا ورحمتنا كم نتمنى أن تكون أوطاننا حياة جميلة ومعطّرة، لا موت يقيمُ فيها ويحيلنا إلى مقبرة. كم نحلم بإشراقة الإنسان من المحبة والإنسانية والوجدان، لا من الظلم والظلام وسكين الحقد وفتاوى الشيطان؟
بالتأكيد هو ما نحتاجه جميعاً وما ينطق به صوتنا.. صوت الشاعر الذي أبى إلا أن يزفه “من الشرفة” لنا:
“من شرفة الإصغاء/ والعصافيرُ في حوار منمَّق/ والسماء زرقاء: /قبّة من عقيقٍ معرَّق ببياضٍ رقيق/ شجرٌ في سرير النسائم/ يمضي إلى النوم أخضر/ والموتُ أعني رسولهُ/ لا يُرى/ وإن أثقلَ الضحى بظلٍ عميق/..
هذا ما زفّه لنا “دانيال” فاضطرّنا للسؤال: ياترى، هل يشعر بأن العمر الذي قضاه وهو يجوب في أنحاء الغربة، قد هرم وهُزم دون أن يقبض إلا على حياةٍ مُستبدٌّ بها ومُستبدّة، أم أنه مثلنا، متشائم ومفجوع بهذا العالم الذي أرهقنا وخنقنا وهجّر حتى نبضنا؟.
حتماً، المعنى في وجع الشاعر ولاسيما انه فارق الوطن وأرض طفولته وطموحاته لسنواتٍ بعيدة. سنوات جعلته يتطلع من أقاصي الأرض إلى قريته، فيجد حتى “الزهرة” قد نزفت نداها بمفردات حكايا الوجع مع قصيدته:
/هنا شرفةٌ عطرَة/ مبلَّطة بالرخام/ ومنها أطلُّ على مقبرة/.. جلست على زهرةٍ سمقتْ/ من ثقوبِ البلاط وغنّت: لماذا إلى الشَّام، والشَّام فيَّ/ إذا مانفيتَ تعودُ إليَّ/؟!/..
هكذا ينشد الغربة معرّياً فيها أناها. ينشد الحياة التي شيعت الأمنيات، بتفاقم ويلاتها ودماء قتلاها.. يفقد الأمل “عندما” يشتاق لاحتضان وطن يشعر بعيداً عنه وكأنه “قبر الآفاق المتجول بشاهدة ذهبية” ولاتحييه إلا أرضه السورية.
هاهو في وطنه، ويعزف الحبّ رغم الوحش الذي أخمد ضوء “قمر” الحياة في أعين الأطفال واستبدلها بحجارته. أيضاً، رغم الوباء الذي أنهك الأرواح قبل الأجساد، دون أن ينهك إرادته. الإرادة التي أبت إلا العزف شعراً على “كمنجات كي نحيا”.
كي يحيا الشاعر الفلسطيني “أشرف فياض” قبل أن يموت في زنازين الحقد السعودي” وكي يتحرر “الزمن الفلسطيني من القيد اليهودي”.
/كمنجاتٌ على أشلاء أحلام الفتى المقدام/ على ديباجةٍ غصّت بها الأقلام/.. على “لا” حُرَّةٍ بحناجِر العوسج/ على مَجرى لنبعيّ حِبرنا ودمائنا/ شَقَّ الصُّخور/ إلى البَنَفْسَجْ..
كمنجات لكمامات كوفيد الصغير/ كأن بيوتنا أقفاص طير/ وكأنه مِلكُ الفراشاتِ وفاعل خير/.
باختصار، الشاعر مسكونُ كما كلِّ إنسان بغضبٍ سببه هذا الزمن الغارق بالخزي والعار.. يرنو إلى “نجمة الضباب” تتهاطلُ أدمعها نيراناً على الوطن والأهل والأحباب.. يخمد ما أوقدته من حرائق الأمس، ويدين الشيطانة أميركا التي تكره أن تنمو حولها إلا “أعشاب اليأس”..
/أنجيلا عاشت ورأت/ أن الديمقراطية صحراءٌ، ودمٌ ونباح كلاب في ليلٍ دامس/ وحريقٌ في “أوراق العشب” اليابس/ أن جذور الغابات الافريقية/ تصطرعُ على أرصفة الشارع مع شرع الغاب/ أن العالم يهوي/ لا جدران ولاأبواب/ قبضات يائسة تصرخ في ساحات الوحش الأخرس/ دعنا نتنفَّس!!/.