من أين تبدأ الحكاية لا تعرف.
كيف ستدخل في التفاصيل أيضاً لا تعرف.
كل ما تعرفه الآن وفي هذه اللحظات أنك متعب وعاجز عن الكلام مع المحيط الذي لا يكف عن الأسئلة: (ما بك؟)
أصحيح ما بي؟
تقف خلف النافذة وترمق البيوت المحيطة بك ودون إدراك، لماذا قفز خيالك إلى أسعارها؟ هذه الشقة تساوي الآن مئة مليون وتلك المدهونة بالأصفر والأبيض وحولها سور حديدي تساوي مئتي مليون، أما الفيلا.. الفيلا لا تعرف كيف ستقدر ثمنها.. على الليرة السورية أم على الدولار؟.
تتذكر بيت الأسرة في قريتك الوادعة في أعالي الفرات.. سهوب ممتدة على مدّ النظر وسماء مفتوحة حتى دمشق وحلب.. رمال حنون لا تشبه رمال الخليج التي لم تستطع أن تقيم علاقة معه… مع ذلك ربما تمر بك لحظات ندم عابرة لأنك لم تبق في الغربة.
صحيح هي مضيعة للأصل وإنكار للمعروف، ولكنها تحفظ ماء الوجه في زمن لم يعد فيه ماء أبداً..لقد غزانا التصحر الروحي والأخلاقي والمادي.. تمد يدك إلى جيبك.. تتحسس ما بقي معك من نقود الراتب.. تبتسم بحرقة (يا عمي لسة نحن بنصف الشهر.. من وين ؟)
زوجته قالت: والله ما بعرف من وين.. البنت تريد التسجيل في الجامعة.. والولد يحتاج إلى دروس خصوصية في البيت من أجل البكالوريا.. جاره قال لابنه: لماذا وجدت المدرسة.. ولماذا تدفع وزارة التربية الراتب للمدرسين إذا كانت المدرسة غير ذات فائدة؟
مرر أنامله على الزجاج بقسوة.. كان يود أن يضربه بقوة ويكسره ليفرغ هذا الغضب الذي في داخله، لكنه تذكر مدارس القرية المتنقلة، وتذكر أستاذه سالم الذي جاء من مدينة حلب وسكن معهم في بيوتهم، وأقام مدرسة تتبع في حلها وترحالها أهل القرية البدو الساعين مع الغنم، بحثاً عن المرعى.. شمّ رائحة بيت الشعر وحليب الغنم الطازج الذي كانوا يشربونه أحياناً من دون أن يغلوه.. لم تكن هذه الأمراض الفتاكة ولم يكن أحد قد سمع بطاعون البقر ولا بجدري البقر ولا بالكورونا.. ولا بهذا الفقر المدقع.
التفت مسرعاً نحو ابنه وقال له (أسمع نقراً على الباب.. لا تفتح لأحد.. ليس لدي قدرة على مجاملة الجيران).
اندهش الولد.. لم يكن والده هكذا.. فهو لا يستطيع أن يقدر بأن القهوة تكسر الميزانية والشاي كذلك والسكر؟ وأن الجمعيات ضحك على اللحى، إضافة إلى هدر الوقت والكرامة على أبواب هذه المؤسسات.. حيث يجتمع الناس من كل حدب وصوب.. وبعد ساعات يمكن أن تأخذ حصتك الناقصة وتعود إلى بيتك لتجد نصيحة على التلفاز (حافظوا على التباعد من أجل صحتكم).
يضحك ملء فيه وينادي زوجته وهو يقول لها: (اسمعي.. اسمعي).
لكن الزوجة لم ترد.. بل قالت بصوت حاسم (ادفع فاتورة الهاتف.. نريد أن نحكي مع الأهل في الرقة).
حين لفظت اسم الرقة بحزن هدر الفرات في قلبه، وعبقت رائحة السمك المشوي في المقاهي التي كانت تستلقي على الضفاف الجميلة.. شعر برغبة في الصراخ رافضاً هذه الحياة القاسية المفروضة عليه.. لم يكن يريد مغادرة الرقة ولا شركة حوض الفرات.. وعندما تخرج من كلية الهندسة في دمشق التي سحرته قال (أريد العمل في الفرات).. كأنما يريد أن يقدم شيئاً لهذا النهر العظيم الذي تربى مع رمله وطميه ومائه.. ترقرقت دمعة في عينيه وقال هامساً لزوجته: (قولك هل سنرجع مرة أخرى إلى الفرات؟).
بكت الزوجة وانزوت ولم ترد على السؤال، فرد الابن وقال: خذنا إلى قريتنا.. اشتقت إلى رفاقي الذين لم أرهم منذ تسع سنوات، عند ذلك قالت البنت: ربما سافروا أو هاجروا مثلنا.
مسح الأب دمعته وقال: (ربما)…
معاً على الطريق – أنيسة عبود