تمر هذا العام الذكرى العاشرة بعد المئة على إقامة أول معرض تشكيلي عربي في القاهرة وقد لفتت الانتباه فيه آنذاك منحوتات محمود مختار التي كانت تبشر بفجر جديد لفن النحت المصري وكان مختار أيضاً من أوائل المتابعين للدراسة في أوروبا مع راغب عياد ويوسف كامل وأحمد صبري. ويعتبر هؤلاء، إضافة الى محمود سعيد، ومحمد ناجي، الرواد الستة للفن المصري الحديث، وهو الفن الذي واكب عصر النهضة المصرية التي بلغت قمتها بفضل ثورة ١٩١٩ ومقدماتها ونتائجها.
وُصف محمود مختار بأنه أول فنان معاصر يلتقط الإزميل من آخر نحات فرعوني وقد نجح مختار فيما فشلت فيه الحقبتان البطلمية، التي تلت غزو الاسكندر لمصر، والرومانية، حين عجزت كلتاهما عن حفظ ازدهار فن النحت في مصر القديمة والموائمة بينه وبين فنون هاتين الحقبتين، فيما نجح مختار ببعث تقاليد هذا الفن ضمن رؤية عصرية، وأسلوب فني محلي تجلى في عدد كبير من الأعمال النحتية وكانت الفلاحة المصرية بزيها التقليدي مصدر إلهامه وموضوعا للكثير من أعماله، وقد وحّد صورتها الرشيقة مع إيزيس ونفرتيتي وكليوباترا وغيرها من رموز التاريخ القديم حتى صارت تمثل مصر ونجدها في تمثال (نهضة مصر)، العمل النحتي الأشهر، واقفة بشموخ مستندة بيمناها إلى ماضٍ متحفز يهم بالنهوض ممثلا بأبي الهول، في حين ترفع بيسراها حجاباً لتنظر إلى الأفق البعيد.
وكما يُعدُّ محمود مختار رائد فن النحت الحديث في مصر، يُعدُّ محمود سعيد رائد فن التصوير المصري الحديث، ويختلف الاثنان في جذورهما الاجتماعية، إلا أنهما يلتقيان عند استلهام البيئة المحلية بعملهما الإبداعي، بما تتضمنه تلك البيئة من خصوصية الطبيعة وحياة الناس ضمنها. ولد محمود سعيد بمدينة الإسكندرية لعائلة ثرية، غير أن منبته الاجتماعي لم يحل دون اهتمامه بالطبقات الشعبية في مصر، فصور الحياة في شوارع مدينته الإسكندرية وحاراتها، كما صور نساءها في عدة لوحات شهيرة مؤكداً على القيمة الجمالية الخاصة التي تميز وجوههن و قوامهن وشكل ثيابهن وفي الوقت ذاته استحوذت حياة الفلاحين على إعجابه فصورها في عدد كبير من اللوحات كان منها لوحة (الشادوف) وهي نوع من مضخات الماء المحلية يرفع بها الفلاحون المصريون مياه النيل لري أراضيهم وكان لمشاهد الطبيعة المصرية حيز واسع من اهتمامه.
يوسف كامل، ثالث الرواد، جمعته حوارات مع الرائد الرابع راغب عياد خلصت إلى ضرورة السفر إلى إيطاليا (بالتمويل الذاتي) ومتابعة دراسة الفن فيها، فاتفق الاثنان على أن يقوم أحدهما بالتدريس بدل الآخر في مصر، ليسافر الثاني إلى إيطاليا للدراسة، مزوداً براتب شهري لتغطية نفقات هذه الدراسة، سافر يوسف كامل أولاً (1921)، وراح راغب عياد يرسل إليه راتباً شهرياً. ولما انتهت دراسة كامل، سافر عياد في الإجازة الصيفية إلى إيطاليا، حيث التقى الصديقان وأمضيا الإجازة سوياً ثم عاد يوسف كامل إلى مصر ليقوم بالتدريس مكان زميله ويرسل إليه مرتباً شهرياً، في إيطاليا أحب كامل الانطباعية وكان يكرر دائماً أنه ولد تأثيرياً (انطباعياً) ولكنه كان انطباعياً مصرياً تشع لوحاته بشمس وادي النيل وقد انشغل بقوة الضوء ولم يكن يعبأ بتحليل الألوان كما هو حال الانطباعيين.
أما راغب عياد فقد التحق بمدرسة الفنون الجميلة في القاهرة في السنة التي أُحدثت فيها، وقد رتب أمور دراسته في إيطاليا (بالتمويل الذاتي) مع زميله يوسف كامل (كما ورد سابقاً) توجه طوال مسيرته الفنية إلى مشاهد من الحياة اليومية الشعبية والريفية، مثل السوق والعمل في الحقول والمقاهي الشعبية، بالإضافة إلى الممارسات التقليدية المترسخة في الثقافة المصرية وقد امتدت جذور أسلوبه إلى ما يعرف الآن بالفنون الشعبية، التي كانت سائدة قبل التأثيرات الأوروبية، وإلى الفنون الإسلامية وبشكل خاص رسوم المصور البغدادي محمود الواسطي، وإلى العصور المصرية القديمة.
أما محمد ناجي، خامس الرواد، فقد بدأ حياته الفنية مبكراً مع نهاية دراسته الثانوية فدرس فن التصوير بمرسم فنان ايطالي في الاسكندرية عام 1906، ثم في إيطاليا قدم ناجي مجموعة من اللوحات تعكس تأثره بمناخ الاستقلال والنهضة الذي صاحب الحركة الوطنية المصرية في عشرينيات القرن الماضي، وأغنى الفن المصري بإبداعات شكلت نقطة مفصلية في هذا الحقل فهو من جهة لم يتخلف عن محاكاة كل جديد في الفن التشكيلي العالمي، أو يقيم حواجز بينه وبين الحداثة بمختلف اتجاهاتها، ومن جهة ثانية حرص على حضور مفردات بيئته ومجتمعه في تجليات إبداعه كان مجدداً لكنه لم يهجر الكلاسيكية.
سادس الرواد، أحمد صبري، تخرج من مدرسة الفنون الجميلة في القاهرة عام 1914، وكان الأول على دفعته. سافر إلى باريس على نفقته الخاصة سنة 1919، وعاصر فيها بعض الاتجاهات والمدارس الفنية الحديثة التي رأى فيها هروباً من البحث وراء القيم الحقيقية العميقة في الفن. تناول في أعماله الطبيعة والطبيعة الصامتة والعمارة القديمة، وبرع في لوحات الوجوه بشكل خاص فقد عالجها بحرفية فنية بالغة الدقة، واختار أشخاص لوحاته من الافراد العاديين المحيطين بحياته ومع أن غالبية هذه الأعمال كان ينفذها داخل محترفه، إلا أنه كان يتعمد إغراقها بالضوء النقي الساطع، مبتعداً قدر الإمكان، عن الظلال القاتمة الكئيبة الكامدة التي تحملها غالبية اللوحات الأوربية.
لقد أسس الرواد المصريين الستة لحداثة فنية، لكنها كانت حداثة محلية متحررة- إلى حد بعيد- من التيارات الغربية وأقرب إلى الروح المصرية، بمد جسورها مع الفن الفرعوني، والثقافة العربية، ومع المناخ اللوني للطبيعة المصرية، ومع الرسوم الشعبية، والبيئة الشعبية وبذلك حددوا المسارات الأساسية للفن التشكيلي المصري، وملامح هويته البصرية الخاصة.
إضاءات – سعد القاسم