الميتافيزيقا أسئلة مركزية حول الفلسفة الأولى

الملحق الثقافي:حاتم حميد محسن:

من الصعب معرفة بالضبط ما هي الميتافيزيقا، فهذا ربما ليس السؤال الأول الذي يحتاج للإجابة، خاصة إذا كنا في بداية الدراسة لهذا الحقل، لكن هذا سيكون أشبه بإرسال مستكشف ليرى كيف هو الطريق أمامنا.
حب الاستطلاع الطبيعي يدفعنا للتفكير حول ما إذا كان العالم هو ما يبدو لنا. في اللحظات القليلة التي نكون بها متحررين من عبء القضايا الدنيوية، يأتي هذا السؤال بإلحاح إلى أذهاننا لمعرفة هل إن العالم هو ما يبدو لنا؟
نحن نعرف أن الأشياء أحياناً تكشف عن ذاتها بطريقة ليست كما تبدو لنا، وأن هناك أوهام، والأحاسيس ربما تخدعنا. العالم يبدو أنه تشكّل من أشياء مادية ذات استمرارية معينة. أيضاً، عندما نلاحظ أي حدث، هذا دائماً له سبب آخر، نحن نرى الأشياء لا تختفي إلى لا شيء وأنها لا تأتي من لا شيء أبداً. العالم يبدو بهذه الطريقة، ولكن هل هذا هو حقاً؟ هل العالم نوع من الوهم؟ ماذا يوجد حقاً؟ ما هي الحقيقة؟
هذه بعض الأسئلة التي تسعى الميتافيزيقا للإجابة عليها، ماذا يوجد، ما هي طبيعته، ماذا هناك، وكيف يتم ذلك. ما هي السمة الكلية للعالم؟ اسم ميتافيزيقا )ما بعد الطبيعة) جاء في الأصل من تصنيف مكتبي. أرسطو أطلق اسم ميتافيزيقا على النصوص التي جاء موقعها على الرف بعد النصوص المتعلقة بالطبيعة، أرسطو ذاته سمى هذه النصوص بالفلسفة الأولى التي تعطينا فكرة عن كيفية التعامل مع المفاهيم الأساسية للفلسفة.

لو أردنا تلخيص معنى الميتافيزيقا بسؤال واحد سيكون: لماذا هناك شيء بدلاً من لا شيء؟ كل الأسئلة في الفلسفة تتجه نحو هذا السؤال كالأنهار التي تتجه نحو المحيط. من الواضح، كما يقول هايدجر «هذه أم جميع الأسئلة». واضح أيضاً أن الغالبية من الناس نادراً ما يسألون أنفسهم هذا السؤال. في معظم الأوقات التي يجيب بها الناس على هذا السؤال، يشيرون به إلى القصص الكبرى التي جاءت بها بعض الأديان، إذ يقول الثيولوجي المسيحي، إن الله خلق العالم من لا شيء. وخلافاً للدين والثيولوجيا اللذين يؤسسان كل شيء على العقيدة، فإن الميتافيزيقا تحاول الإجابة على الأسئلة الأساسية لتضع الأساس لكل ما نعرفه من الأشياء بيقين.

ماذا أعرف؟
في الدين أو الثيولوجي يكون السؤال: ماذا أعتقد؟ على عكس ذلك في الميتافيزيقا، السؤال الأساسي يكون ماذا يمكن أن أعرف حول العالم بشكل معقول ومتحرر من الشك. الميتافيزيقا يمكن اعتبارها علماً، لكنها تختلف جذرياً عن أي علم حديث. نحن نستطيع رؤية الجواب لو نسأل أنفسنا عن طبيعة المعرفة العلمية. هل هي حقاً معرفة؟ لو قمنا بتحليل مفصل وعلمي لأي ظاهرة معينة، كالصوت مثلاً، والذي توضحه الفيزياء كاهتزاز في جزيئات الهواء. كيف ننتقل من ذلك التوضيح إلى تجربة الصوت بذاتها؟ معظم ما يعطينا إياه العلم هو فقط وصف دقيق أكثر تفصيلاً، لكن كل الظواهر تبدو غامضة كما لو كانت تنتمي إلى العصر البرونزي.
في الظاهر، هدف العلم هو صياغة نظريات بطريقة اقتصادية. هذا يعني أن نصف أكبر ما يمكن من الظواهر بأقل مقدار ممكن من المبادئ. الطريقة الاقتصادية تشبه مبدأ (أوكهام ريزر) القائل إن أبسط توضيح هو الأكثر احتمالاً. متى تكون النظرية العلمية صحيحة؟ أو ما هي معايير الحقيقة العلمية؟ الجواب هو أن النظرية تكون صحيحة عندما تمكّننا من عمل تنبؤات كمية دقيقة حول العالم. من الواضح أن كوننا قادرين على عمل تنبؤات كمية يعطينا قوة معينة على العالم. نحن نرى أن في العلم هناك مساواة بين الحقيقة والقوة، أو أن الحقيقة هي قوة. النظرية العلمية يمكن النظر إليها كأنموذج للعالم يعطينا إمكانية لعمل تنبؤات عنه، وليس من الضروري أن يمثل الأنموذج الوجودات القائمة. يبدو أن اهتمام العلم يتركز على خلق مزيد من السيطرة أو القوة على العالم بدلاً من المعرفة عنه. لذا لو أردنا امتلاك معرفة حول العالم أين يجب أن ننظر؟ الجواب ربما نجده في الميتافيزيقا.
تاريخياً كانت الميتافيزيقا قد قصد بها توفير أساس لكل العلوم، لكن هدفها الرئيسي هو أن تعطي معرفة حقيقية. بالمعرفة الحقيقية نقصد تقرير ما موجود، ما طبيعته، وجواب لسؤال ما هي الحقيقة؟ الميتافيزيقا تختلف جذرياً عن العلم الحديث، لكن في أصلها تأتي من نفس المصدر. في بداياتهما الفكر الميتافيزيقي والعلمي لم يكونا مختلفين، وكلاهما انبثقا من الرغبة في توضيح طبيعة العالم وفق مبدأ أساسي أو مجموعة مفاهيم اعتُبرت أساسية. هذا كان أحد الأهداف للفلاسفة الأوائل والذين أيضاً كانوا أول المفكرين العلميين. هم سعوا لتوضيح العالم بطريقة غير أسطورية، ليس كخلق للآلهة المجسمة، وإنما وفق المبدأ الأول أو عنصر أساسي.

تاليس
كان من الشائع أن تاليس (624-546 ق.م) هو أول فيلسوف في الفكر الغربي (وهو أول ميتافيزيقي وعلمي لأن هذه الحقول لم تكن منفصلة عن الفلسفة). هو قال إن المبدأ الأساسي لكل شيء هو الماء، أو أن كل الأشياء في النهاية تُصنع من الماء. هذا التأكيد الذي بدا لأول وهلة غير واقعي، يحتوي على فكرة هامة وهي، أن التعددية في الأشياء هي ظاهرية فقط، وأن هنالك وحدة في كل شيء. في نظرية تاليس للماء كمبدأ أساسي، نجد في شكل جنيني فكرتين أساسيتين في تاريخ العلوم والميتافيزيقا: واحدة عن الاختلاف بين ما يبدو وما هو عليه الشيء، والأخرى توضيح العالم على أساس الجوهر وخصائصه. هذه الفكرة في الجوهر كشيء لا يتغير، والذي هو الماء بالنسبة إلى تاليس، هي شائعة لدى جميع المفكرين ما قبل سقراط. هل سنجد لدى مفكري ما قبل سقراط بداية جميع الأفكار الفلسفية اللاحقة، وأيضاً الأسس والافتراضات المسبقة للعلم الحديث؟

مفهوم الطاقة في الفيزياء الحديثة، يبدو صدى لهذه الفكرة الأساسية للجوهر. يمكننا القول تقريباً إن كل مفاهيم العلوم الأساسية والميتافيزيقية هي بطريقة ما تتجسد في وسيط جنيني في التفكير الما قبل سقراط. نحن نجد ليس فقط بداية المفاهيم الميتافيزيقية وإنما أيضاً بداية الطريقة الميتافيزيقية والعلمية. حرفياً، كلمة طريقة تعني الذهاب إلى ما بعد، أو الطريق الذي يأخذنا إلى جهتنا المقصودة. نحن نستطيع أن نسأل ما الجهة المقصودة للفكر الميتافيزيقي، أو ما هو هدف الدراسة؟ إنها لا يمكن أن تكون شيئاً أو صنفاً من الأشياء، لأنها في تلك الحالة ستقع تحت حقل دراسة أحد العلوم، وطريقتها ستكون الطريقة العلمية أو التجريبية. إذا لم يكن موضوع دراسة الميتافيزيقا شيئاً أو صنفاً من أشياء، فيجب أن يكون ما هو مشترك والذي هو حقيقة وجود تلك الأشياء.

بارمنيدس والوجود
الوجود إذاً هو موضوع الميتافيزيقا، ولكن ما هي الطريقة التي تأخذنا للاعتقاد بالوجود؟ هذا السؤال حاول المفكر بارمنيدس ما قبل سقراط (في القرن الخامس قبل الميلاد) الإجابة عليه في قصيدته الفلسفية حول الطبيعة التي وصف بها طريقتين أو مسارين للتحقيق، واحدة طريقة الرأي أو المظهر وهي الأكثر شيوعاً وحيث تأخذنا الأحاسيس. أما الطريقة الأخرى هي طريقة الحقيقة، حيث نستطيع فقط الذهاب بوسائل استعمال العقل أو المنطق. هو يقسم طريقة الحقيقة إلى اثنين، واحدة ممكنة: ما هو الموجود، والثانية غير ممكنة: ما هو غير الموجود. بارمنيدس يرى الأحاسيس تعطينا فقط معرفة ظاهرة أو مضللة. في طريقة الحقيقة هو يستنتج كل شيء من مبدأ تيتولوجي: الوجود ما هو كائن، أما اللاوجود فهو ما ليس بكائن. في هذه القصيدة يعبّر بارمنيدس في أول عبارة بأن «الوجود هو ما هو كائن» أما «اللاوجود فليس كذلك». في نفس الوقت هو يستخدم طريقة في التفكير يمكن تسميتها بـ «العقلانية الأصلية»، فيها يبدأ من مبادئ بديهية، ومن خلال عملية منطقية يستنتج عدد من الافتراضات الميتافيزيقية يعبّر فيها بأن ما موجود هو ضروري ومتفرد وبدون بداية وبلا زمن وثابت لا يتغير.
تفكير بارمنيدس كان له تأثير عميق في تطور الميتافيزيقا عبر إدخاله سؤال الوجود، والذي يمكن النظر إليه بثلاث طرق: واحدة كحركة ديالكتيكية تعبر عما يبدو المضاد لهرقليطس، إذا كان هرقليطس يقول بإن كل شيء في تدفق مستمر، بارمنيدس قال إن التغيير هو في الظاهر فقط، وإن ما يوجد هو ثابت. الطريقة الثانية هي النية في تحذيرنا من الطبيعة الوهمية للمعرفة التي تعطيها الحواس، وأن المعرفة الحقيقية هي فقط التي نحصل عليها باستخدام عقلنا مبتدئين من مبادئ بديهية. الطريقة الثالثة في تفكير بارمنيدس هي إنكار شيء ما واضح كالحركة، هو يحذرنا من الأشكال الأخرى للوهم مثل وهم العقل. هذه تبدأ من مقدمات صحيحة في الظاهر، ومن خلال العقل نصل إلى استنتاجات زائفة بشكل واضح. فلسفة بارمنيدس هي نقطة البدء في سؤال الوجود وأن جميع الميتافيزيقا اللاحقة هي تاريخ لهذا السؤال. بارمنيدس يستخدم أيضاً في التفكير الميتافيزيقي مفهوم يمكن تسميته بالعالمين الاثنين، العالم المفاهيمي والذي يُدرك فقط بالعقل والمنطق، والعالم المحسوس والذي يُدرك بالحواس. إن طريقة بارمنيدس الثنائية في فهم الواقع أثّرت على أفلاطون ونظريته بوجود عالمين، العالم المثالي وهو عالم الحقيقة، والعالم المحسوس وهو عالم الظلال.

أفلاطون وديكارت
في ميتافيزيقا أفلاطون، وجود الأشياء هو فكرة الأشكال، هذا يعني أن وجود الموجودات هو شكلها. يرى أفلاطون أن العلم المثالي والأنموذج للفلسفة هو الهندسة أو علم الأشكال. الهندسة هي العلم الذي له قوة ظاهرة يبدأ فيها من فرضيات هندسية بديهية واضحة وبسيطة، تسمى مسلمات، جميع الفرضيات الأخرى تُستنتج منطقياً.
إن محاولة جعل الميتافيزيقا علماً له صلابة وطريقة الهندسة، كان طموح بعض الفلاسفة مثل ديكارت الذي كان هو ذاته هندسياً ورياضياً. اتخاذ الهندسة كأنموذج للميتافيزيقا سيكون مساوياً لإيجاد مسلمات ميتافيزيقية أساسية واضحة، ثم الاستنتاج منها منطقياً كل الافتراضات الميتافيزيقية الأخرى.
هذا ما حاول ديكارت عمله في (حديث عن الطريقة)، حيث صاغ مسلمته الميتافيزيقية «أنا افكر إذاً أنا موجود»، وهي الفرضية التي يستحيل معها الشك. فرضية أن شيئاً ما موجود والذي هو مؤكد، هي فكرة ديكارت بأن الميتافيزيقا يجب أن تكون علماً استنتاجياً يبدأ من مبادئ قبلية واضحة. المبادئ القبلية الصالحة هي المبادئ التي لا نحصل عليها من التجربة. الميتافيزيقا لا يمكن أن تكون فقط علماً تجريبياً، لأننا من خلال التجربة نحصل فقط على معرفة عرضة للخطأ والتي لا ترقى إلى مرتبة الصلاحية العالمية.
ربما إحدى أهم الافتراضات الواضحة والأساسية التي نضعها عن العالم، هي أن شيئاً ما موجود. حالما نعرف أن شيئاً ما موجود، فإن الأهداف الرئيسية للميتافيزيقا هي أن تقرر طبيعته. مع فلسفة أفلاطون التي فيها العالم الحقيقي هو العالم المفاهيمي أو عالم الأفكار، يمكن القول إن ذلك كان بداية النقاش الذي استمر إلى يومنا هذا .
نحن نعرف أن العلم الحديث مثل الفيزياء يؤسس كل شيء على مفاهيم مثل المكان والزمان. إحدى الأسئلة الميتافيزيقية الرئيسية، هي معرفة ما إذا كان الزمان والمكان لهما وجود بذاتهما أم يوجدان فقط في أذهاننا، حيث يكون الوجود عندئذ فقط طريقة لأذهاننا لتنظيم وإعطاء تماسك للمعلومات الحسية. إذا كان المكان والزمان كينونتين غير موجودتين، فإن إحدى النتائج ستكون أن جميع العلوم تُختزل إلى مجرد أنموذج للواقع.
الميتافيزيقا على عكس العلوم تحتاج إلى الكفاح لأجل وجودها، لأن هناك بعض الاتجاهات الفلسفية مثل الوضعية المنطقية تنكر أي معنى للفرضيات الميتافيزيقية. بالنسبة إلى الوضعية المنطقية، فقط الفرضيات التي تضع تنبؤات عن العالم يكون لها معنى. السؤال هو، هل إن الفرضيات بذاتها تعمل بعض التنبؤات عن العالم.
حتى عندما تُنكر إمكاناتها، تبقى الميتافيزيقا هي الحقل الوحيد الذي يستطيع إعطاء رؤية موحدة حول العالم ككل. في زمن الوفرة المفرطة للمعلومات، والنزعة المتزايدة نحو التخصص، إذا لم يكن لدى الميتافيزيقا أجوبة، فهي على الأقل توفر طريقة للتفكير الذاتي النقدي حول ما نستطيع معرفته، ماذا نعرف، وما هي الحقيقة؟
‏What is metaphysics?, philosophyessays.org

التاريخ: الثلاثاء8-9-2020

رقم العدد :1012

 

آخر الأخبار
الرئيس الأسد يصدر قانون إحداث وزارة “التربية والتعليم” تحل بدلاً من الوزارة المحدثة عام 1944 هل ثمة وجه لاستنجاد نتنياهو بـ "دريفوس"؟ القوات الروسية تدمر معقلاً أوكرانياً في دونيتسك وتسقط 39 مسيرة الاستخبارات الروسية: الأنغلوسكسونيون يدفعون كييف للإرهاب النووي ناريشكين: قاعدة التنف تحولت إلى مصنع لإنتاج المسلحين الخاضعين للغرب الصين رداً على تهديدات ترامب: لا يوجد رابح في الحروب التجارية "ذا انترسبت": يجب محاكمة الولايات المتحدة على جرائمها أفضل عرض سريري بمؤتمر الجمعية الأمريكية للقدم السكرية في لوس أنجلوس لمستشفى دمشق الوزير المنجد: قانون التجارة الداخلية نقطة الانطلاق لتعديل بقية القوانين 7455 طناً الأقطان المستلمة  في محلجي العاصي ومحردة هطولات مطرية متفرقة في أغلب المحافظات إعادة فتح موانئ القطاع الجنوبي موقع "أنتي وور": الهروب إلى الأمام.. حالة "إسرائيل" اليوم السوداني يعلن النتائج الأولية للتعداد العام للسكان في العراق المتحدث باسم الجنائية الدولية: ضرورة تعاون الدول الأعضاء بشأن اعتقال نتنياهو وغالانت 16 قتيلاً جراء الفيضانات والانهيارات الأرضية في سومطرة الأندونيسية الدفاعات الجوية الروسية تسقط 23 مسيرة أوكرانية خسائر كبيرة لكييف في خاركوف الأرصاد الجوية الصينية تصدر إنذاراً لمواجهة العواصف الثلجية النيجر تطلب رسمياً من الاتحاد الأوروبي تغيير سفيره لديها