منذ أكثر من ثمانية عقود أخذت لوحات فنانينا الرواد تتحرر من القيود التقليدية، الكلاسيكية والرومانسية والتسجيلية، وجاءت هذه التحولات الفنية كنتيجة طبيعية وحتمية لولادة رؤى انطباعية، في خطوات إيجاد معادلات جديدة لرسم لوحة المنظر، من خلال رصد تبدلات الضوء واللون في المشهد الطبيعي، والتركيز على ألوان الريف وحقوله وبساتينه وحكاياته الحميمية، المترسخة في ذاكرة العين ومخزونها البصري.
كما سعت معظم التجارب المحلية، في مرحلة ما بعد الخمسينيات، لترويج الفن كفعل ثقافي يطمح إلى استعادة خصوصيات المناخ اللوني المحلي، والمظاهر التراثية والذاكرة الطفولية والأمكنة المعرضة للغياب، وإيقاعات العشق اللوني المتداخل مع نسيج الذاكرة والقلب، ولقد تواصلت مظاهر الدمج الحيوي بين معطيات الفنون الشرقية، ومعطيات الفنون الغربية الحديثة ، حتى أن التجارب التشكيلية السورية الحديثة، التي جنح أصحابها في الخمسينات والستينات، نحو مظاهر التجميع في دمج الشكل الشرقي (الزخرفي أو الحروفي أو الواقعي) بمزيد من اللمسات اللونية العفوية، هدفت لإعطاء البنى التراثية المزيد من الإضاءات الحديثة، في محاولة لتقديم الإشارات التراثية، من خلال الانفتاح على توجهات وتداخلات ثقافة فنون العصر. وبعودة تاريخية إلى مراحل تحولات وانعطافات الفن السوري، يمكن التمييز بين نوعين من الفنانين، فهناك فنان خط يرتكز على حركة وايقاعات الخطوط في خطوات إنجاز لوحته التشكيلية، وهناك فنان لون يرتكز بصورة أساسية على اللون وإيقاعاته وتدرجاته البصرية. وهناك فنان ثالث يمتلك قدرات في الخط واللون ويجمع في لوحاته بينهما، وبالطبع تختلف قدرات كل فنان عن الآخر حسب درجة موهبته وإبداعه .
وحالات الانفتاح الثقافي ساهمت في زيادة خطوات المغامرة والتجريب والتشكيل البدائي والطفولي، وصولاً إلى حالات مزج الفن بمعطيات العلم والتطور التكنولوجي، والتحليق في فضائية الطيف اللوني وموسيقا الضوء، وتطعيمه بالإشارات الحضارية، والإندماج بنبض وجذور التراث المحلي، والسعي إلى إعادة اكتشاف الصلات الجوهرية التي تربط بين الحاضر والماضي، وتدعيم قدرة العطاء، وإغناء الذات وتأصيل عناصر التراث المحلي، من خلال التأكيد على اللون الشرقي، والجذور الحضارية، كمنطق لتأكيد الخصوصية، والإنفلات بالتالي من هيمنة الثقافة الفنية الغربية، على توجهات الفن السوري والعربي المعاصر.
رؤية – أديب مخزوم