تولّاها وليسَ لهُ عَدوٌّ وفارقَها وليسَ لهُ صديقُ
هذا بيتٌ من الشِعر يَهزُّ القارئ هزّاً، بل يصفعُهُ صفعاً؛ على طريقةِ كثيرٍ من أبياتِ المتنبّي التي ترمي بينَ يديكَ فجأةً عُصارَة تجربةٍ حياتيّةٍ عميقة.
البيتُ للشاعِرِ والأديبِ ظهير الدين أبو شجاع (437هـ – 488هـ)، وأرادَ لهُ أن يمثِّلَ حصيلةَ تجربتِهِ في علاقتِهِ معَ السُلْطَةِ، بصورةٍ أو بأخرى؛ فقد أنشَدَهُ لحظَةَ بُلِّغَ قرارَ عزلِهِ من الوزارة، وكان الخليفةُ المقتدي قد وَزَّرَهُ إعجاباً بهِ ومحبّةً له، ودامت وزارتُهُ سبعَ سنينٍ وسبعةَ أشهر، لُقِّبَ ظهيرُ الدين أبو شجاع بالوزير العادلِ، وكانَ كذلك بالفعل رويت عنه حكاياتٌ كثيرةٌ في مساعدتِهِ الناسَ ولا سيّما الفقراء، وإيثارِ بعضهم على نفسِهِ في الطعامِ واللباس، حتى إنه كانَ قريباً إلى الزاهِدِ أكثرَ منه إلى الوزير، وهذا ما تعكسُهُ الحوادثُ التي تلت إعفاءَه، فقد خَرَجَ إلى الجمعةِ كعادتِهِ – بعد شيوعِ الخبرِ – فضجّت العامةُ يدعونَ لهُ ويصافحونَهُ، ويقبِّلُ بعضهم رأسَه، فَفُرِضت عليهِ الإقامةُ الجبريّةُ (وفق مصطلح اليوم) في دارِهِ لا يخرج منها، حتّى إذا حَجَّ لعامِهِ وَرَجَعَ، مُنِعَ من دخولِ بغداد ونُفيَ إلى روذراور، المدينةِ التي ولدَ فيها.
البيتُ المذكورُ – كما أرى – لا يصفُ حَالَ الشاعِرِ الوزيرِ نفسه، كما تُبيّنُ كُتبُ التاريخ، لكنّه من حيث لا يدري وصفَ حالاً ستنتظمُ كُلَّ من قُدِّرَ لهُ أن يتسنَّمَ منصباً كبيراً في البلادِ العربيّة حتى يومنا هذا؛ إلّا من رَحمَ ربّي، يجلسُ الرجلُ على كرسيِّ المنصب فيبدأُ بفقدانِ الناسِ، وبينهم أصحابهُ، ويكثُرُ أعداؤه، ويقلُّ محبوه حتى إذا ما عُزِلَ وجدَ نفسه وحيداً وحدةَ الحلزونِ في قوقعته؛ بالتأكيد ثمّة استثناءات ولكنها ليست كثيرة والسؤالُ الذي لا بُدّ أن يتبادَرَ إلى أذهاننا عندما نقرأُ هذا البيت شئنا أم أبينا: هل الأمرُ ميزة أو حالة عربيّة فحسب، لا تعرفها الأممُ والشعوب الأخرى؟ أم هي لعنةُ السلطة في كُلِّ مكانٍ وزمان؟.
لم أطرح هذا السؤال لأُجيبَ عنه؛ فمن سيفعل لن يكونَ شاعِراً مثلي، بل ينبغي أن يكونَ عالمَ اجتماعٍ ومفكّرٍ يذهبُ بعيداً في بنيةِ العقِلِ – وليسَ العقل العربي فحسب، وفي طبائع البشرِ، وفي المؤثراتِ والعوامِلِ البيئيّةِ والاجتماعيّةِ والدينيّة التي تحيط بالفردِ وتُشكِّلُهُ، وفي آلياتِ السلطةِ وعلاقتها بالأخلاق… أمّا نحن الشعراء فحسبُنا أن نثير الأسئلة؛ أن نشعِلَ حرائقَ المعرفة فنصطلي بنيرانِها، ونُذكيها كلما أوشكت على الانطفاء.
إضاءات- د. ثائر زين الدين