الثورة أون لاين – علي الأحمد :
مع أن هذه القامة الابداعية السامقة، ليست بحاجة الى التذكير بها، عبر بعض الكلمات العابرة، إلا أن “عاصي الرحباني” يجبرنا دائما، على الاقتراب منه أكثر، كلما ضاقت بنا السبل وانعدمت الحيلة، خاصة في عصرنا الملتاث الذي نعيش ، الضنين بالابداع والعطاء، وكيف لنا ألا نتذكره وهو الذي أضاء وعينا الجمالي وأغنى ذائقتنا، بالفن الراقي الذي ملأ أسماعنا وهز وجداننا، ولايزال، بكل ماهو جميل وأصيل، فن البهجة والحياة التي تستحق أن تعاش ملء القلب والروح .
هو عاصي الرحباني، مبدع الجمال الفيروزي، رفيق دربها وشريكها في الحب والحياة والابداع ، الفنان الذي سكب روحه في صوتها النبيل الكريم، لينتج لنا كل هذه الكنوز الرحبانية بمباركة توأمه الروحي الكبير منصور وباقي الصحبة الفنية التي اجتمعت على تقديم أغنية عربية وجدانية مفعمة بالتعبير الدرامي والتصوير الوجداني، تضج بالحياة وتلامس القلب وتحقق للمتلقي العربي بعضا من مطالبه الروحية والوجدانية. نعم، يحق لعاصي ولهذه المدرسة الإبداعية أن تعانق المجد والجمال، أن ُتُكتب سيرتها الفنية بحبر سحري خاص ومتفرد، يليق بهذه التجربة الباذخة، التي غيرت من وجهة الغناء العربي المعاصر، نحو التعبير والتصوير الدرامي، المبني على معرفة وثقافة وفكر، والبحث الدؤوب عن صيغة جمالية مغايرة توهجت طوال هذه المسيرة الفنية التي اغتنت وكبرت مع صوت فيروز الكبير، ورفاق الدرب شعرا وتلحينا وتمثيلا.
نعم وصلت الأغنية العربية مع الرحابنة الى ذروة تألقها وإبداعها وجمالها، هي أغنية عربية مغايرة كلياً لما كان سائداً الذي على أهميته، كان يدعو في كثير من محطاته إلى التذلل والتفجع والحزن والبكائية التي لاتنتهي، ولانريد أن نذكر أمثلة فهي معلومة للجميع، وأيضاً لانريد أن نعقد مقارنة بينهما، فالأغنية الفيروزية هي حالة مختلفة تماماً. هي دعوة للحياة والحب ، وللجمال والفرح والأمل بغدٍ مشرق، وبفضل عاصي هذا المبدع الكبير وبرفقة الكبير ” منصور” أمكن من تحرير النص الغنائي والموسيقي من ترسبات اللغة التطريبية التخديرية، وصار بالإمكان تلمس الجمال التعبيري الدرامي، في كثير من محطات هذه التجربة الغنية ، التي قدمت ذخراً إبداعياً عظيماً، تناول في مجمله قضايا الوطن والإنسان الجوهرية، من دون إدّعاء أو تكلّف، بعيدا عن الإبهار والسطحية والاستعراض الأجوف. وهذا كان، في كافة المجالات الفنية، من القصيدة، الى الموشح، الى الاسكتش، والمسرحيات الكبيرة،ابتداء من موسم العز والبعلبكية وجسر القمر والليل والقنديل، وصولا الى بياع الخواتم الذي تحول فيما بعد الى فيلم سينمائي رائع، ودواليب الهوا وأيام فخر الدين، وهالة والملك، والشخص وجبال الصوان ويعيش يعيش، وناطورة المفاتيح، والمحطة وبترا والعديد من الروائع المسرحية الخالدة، إلى التمثيليات الإذاعية، والفيلم السينمائي،سفر برلك وبنت الحارس، والأعمال التلفزيونية المهمة،سهرة حب، وقصيدة حب مع الكبير وديع الصافي والفنان الجميل الحضور نصري شمس الدين، في تجربة واسعة الخصوبة والثراء الفني الإبداعي، ليس بينها عمل واحد هابط أو رديء، وهذا بحد ذاته إنجاز كبير لهذه المدرسة الإبداعية التي امتدت حوالي نصف قرن من الزمن.
هي تحية متواضعة لعاصي، كما أرادها المبدع الجميل “زياد” في عمله المهم، نستذكره في زمن عزّ فيه الإبداع، نركن إلى صوتها الشفيف، الذي لم يبخل علينا يوماً ما بالعذوبة واللقيا النبيلة الكريمة، . صوتها رفيق قهوتنا الصباحية، وكل الأوقات الهانئة ، نتذكره دائماً، لابسبب الغياب، بل بسبب الحضور الساطع الذي لايخبو، لأنه ببساطة عصّي على النسيان والانطفاء، هو عاصي الفنان الاستثنائي، الذي بحث بدأب وجد وجهد واستنزف روحه وجسده، بحث عن عشبة خلوده، في أسرار الموسيقى وماهيتها وجوهرها الأسمى، كما في الميتافزيقيا والفلسفة والشعر والأساطير ، ليكتب آخر نوتة إبداعية في مسيره الحافل، ويرحل بعد أن خلق واجترح أسطورته الخالدة، وسكن فيها الى الأبد.
ويقول الكبير نزار قباني :
“عاصي الرحباني آخر الأشياء الجميلة في حياتنا ، هو آخر قصيدة، قبل أن ندخل في الأمية ، وآخر حبة قمح، قبل أن ندخل في زمن اليباس ، على يدي عاصي، تحولت الموسيقى من مظاهرة وتحول الحب من غزوة بربرية إلى صلاة وتحول الشعر من قرقعة لغوية إلى جملة حضارية وتحولنانحن، من كائنات ترابية إلى ضوء مسموع “.