الثورة أون لاين – رشا سلوم:
من يكتب للكتابة، أو للهو فليس بكاتب، فالفن ليس للفن والجمال الصرف، كما أوهمنا الكثيرون في الغرب لحرف الرسالة الفعلية للإبداع عن مسارها، ذات يوم قال نزار قباني: بل ألّف كتاباً عن الكتابة كفعل انقلابي، وهو الذي قال يوم حرب تشرين مخاطباً الكتّاب العرب “إذا لم تكتبوا اليوم فلن تكتبوا غداً”، هذا ما عاشه قولاً فعلاً وقدرة على جدلية الانقلاب على الواقع من خلال مسيرته الإبداعية، وديوانه الأول يشي بذلك وما فعله في المشهد الثقافي العربي (قالت لي السمراء ) لقد خلخل الجمود الذي كان وترك بصمة جديدة تتعمق كل يوم.
وكما نزار قباني ها هو أدونس يرى أن الإبداع قراءة في سفر الغد، ومن أجله إذ يرى “لو كنت سأعيش في القرن المقبل، هكذا أميل إلى القول إن الشعر سيزداد ارتباطاً باللامرئي، بالحقائق الداخلية – القلبية سيزداد رفضاً لكل ما يجعل منه إملاء من خارج، أو اندراجاً في إيديولوجيا، أو نظاماً ما، أو مؤسسة ما و سيزداد وثوقاً بأن له حقائقه الخاصة، مقابل الحقائق الأخرى التقنية والنصيحة”، والشعر سوف يسبر الأغوار التي يعجز الإعلام عن الوصول إليها ستزداد هيمنة مناطق القلب والحب والسؤال والدهشة والموت وفيما سيزداد وعي الشاعر بأن مدى الصحراء يتسع وعياً للشعر غائية ولكن ليس بالمفهوم التقليدي.
ربما سيعمل الشاعر على أن يدخل في كتابته الشعرية عناصر كثيرة تنتمي إلى المسرح والرواية والفلسفة والعلم والتاريخ وغيرها وعناصر كثيرة يأخذها من خارج الكلام من الفنون الأخرى ومن الواقع وأشيائه…وفيما سيحدث الشعر هذه الانقلابات في نظام الكلام، وفيما سيكون النص الشعري أشبه بلجة تتصادم فيها شظايا التاريخ والعالم وبؤرة تتلاقى فيها الأزمنة والأمكنة القديمة والجديدة والنثر والوزن العلم والحلم، فإنه سيزداد تمركزاً حول الرغبة واللذة وانبجاساً عنهما وفيهما.
ستكون القصيدة أشبه بنهر تجري فيه أنهار كثيرة، وسوف تكون بوصفها رغبة ومتعة اختراقاً وإباحة وتشكيلاً خلاقاً متواصلاً لم يتشكل، لكن النهر الذي سوف تسبح فيه سيكون الكون كله، مجموعاً في جسد اللغة، ويخلص إلى القول: قال هيجل الفن أصبح من الماضي ويطيب لي أن أقول: إنه ينتمي إلى المستقبل، وأن اذهب إلى أبعد من ذلك فأقول إن المستقبل هو الذي ينتمي إلى الفن، وأن وقتاً ينتهي فيه الشعر، لن يكون إلا موتاً آخر، ليس للشعر زمن، الشعر هو الزمن.
أما الكاتبة والناقدة سناء شوا فترى في ديوان العرب فقالت إن الكاتب قد يكتب عن الواقع ولكن مهمته الأساسية هو أن يكشف ما يقبع خلف الواقع من مشاعر، مشاعر قد تكون نبيلة وقد تكون وضيعة، قد تكون مثالية وقد تكون مادية ولكنها المحرك لكل التصرفات الانسانية، قد تنحرف بسبب الطمع والحقد، وقد تتخذ المسار الصحيح بسبب الحب والنزاهه، جميع الأعمال الأدبية تحمل ذلك الوجه الواقعي للعمل الروائي ثم تحمل ذلك الوجه الخفي لما يدور في الذات البشرية وما يدور في الذات البشرية يبدو أكثر تعقيداً مما يدور في الواقع الحسي، لأنه بداخل هذه النفس تكمن جميع المشاعر ، جميع الرغبات، جميع التطلعات وأيضاً آخر محطات اليأس والانسحاب غير المعلن.
ولكن هل الأدب يأخذ دور المصور الفوتوغرافي للواقع؟ إذا أكتفى الكاتب بأن يأخذ دور المصور فهو فعلاً يكون مصوراً فوتوغرافياً ليس بالكاميرا الخاصة به بل بالكلمات والحروف والجمل ، وهو بذلك لا يُضفي شيئاً جديداً للقاريء، كل ما يفعله هو أن يزود القارئ بالصورة ونجاحه لا يكمن إلا بمقدار صفاء الصورة ، وهو لا يفعل سوى إعطاء القارئ فرصة رؤية الواقع مرتين ليس إلا.
ولكن العمل الأدبي الفني لا يكتفي بأن يأخذ دور الكاميرا بل يمنح للواقع صوراً أو حتى عدة صور مختلفة الألوان والحركة والتفاعل، يضع رؤية جديدة لكل تفاصيل الصورة، لأنه يرى الأحداث من منظار متعدد الأبعاد والزوايا وليس من منظار الكاميرا المحدود، الأديب الفنان يرى الواقع من عدة أبعاد وليس من بعد واحد، يكتب عما هو بسيط بلغة عميقة، ويكتب عما هو معقد بلغة بسيطة لأنه يفكك الواقع ويعيد تشكيله برؤية الإنسان الأديب وبمقدار وعيه الانساني والثقافي تأخذ هذه الصورة الواقعية أبعاداً أوسع، ولهذا يبدو أن الأديب الحقيقي له دور غير دور الكتابة الأدبية، له دور إيجاد الحلول أيضاً لمشاكل إنسانية لأنه يرى العالم بمنظار متعدد الأبعاد.
من ناحية أخرى ، لا بد أن نتعلم كيفية قراءة الأدب، خصوصاً لمن قرأ الكثير من الأعمال الأدبية، لا بد أن تتوافر مهارة رؤية كل عمل أدبي بنظرة جديدة ودون أفكار مسبقة تقارنها أو تشبهها بعمل آخر ، فمهما تشابهت الأعمال الأدبية خصوصاً حين تتحدث عن الواقع فإن روح كل كاتب تختلف عن الآخر ، وعملية الكتابة عملية روحية بالدرجة الأولى رغم كونها تتصل بجميع العلوم الأخرى ، ولكن العلاقة الأصلية والأساسية بين الكاتب وما يكتب هو صلة روحية مع ما يكتب، وما دفعه للكتابة ليس الألم أو الفرح وإلا يمكن لكل إنسان يتألم أو يفرح أن يكتب، ما دفعه للكتابة هو نداء الروح بأن تتسلل الكلمات بهدوء دون هدف ودون غاية لتبدأ بنسج تلك العلاقة الأدبية بين الكاتب وأوراقه، هذه العلاقة الروحية تنشأ حين يكتب أول سطر ولا يدركها في البداية ولكنه مع استمراره في الكتابة يستشعر هذه العلاقة بقوة أكبر ، لا يستطيع وصفها لأنها خارج حدود الوصف ، ولكن كل ما كتبه يحمل طيف هذه الروح الشفافة الخفية .
خلاصة ما يجب القول فيه: الإبداع فعل انقلابي لا بدّ أن يأخذ دوره في الحياة، وهذا ما بدأ الأدب يستعيده، وعلى الكتاب والمبدعين فعل ذلك، هل نسوا أم تناسوا دور الأدب السوفييتي المشهد العالمي، وهل نسسينا ايلوار ولوركا وبابلو نيرودا وغيرهم من المبدعين العالميين؟.