الثورة أون لاين – رشا سلوم:
تمرّ هذه الأيام ذكرى ولادة الكاتب الفرنسي جان جينيه، وهو المعروف بمواقفه التي لم تحاب العدوان الغربي، عاش حياته مشرداً، كما أراد واشتهى، تنقل في الكثير من دول العالم، خاض تجارب الحياة حلوها ومرها، وحياته لم تكن مريحة أبداً، فقد أثير غبار كثير حولها، وعنها، ومع ذلك لم يأبه لكل ألوان الطغيان الذي حاول تشويه دوره الإبداعي والإنساني.
ها هي الذكرى العاشرة بعد المئة لولادته تمر، ويزداد حضوره كقيمة إبداعية مهمة، لا يخلو موقع عربي وعالمي من الحديث عنه، وعن مواقفه، ومن المعروف أنه كان مغرماً بدمشق منذ يفاعته، يقول عن ذلك الكاتب حسونة مصباحي في موقع العرب:
في نهاية العشرينات من القرن الماضي، جنّد، وأرسل إلى بيروت، ومنها إلى دمشق التي مكث فيها عاماً وشهراً،وقد يعود تعلّقه بالعالم العربي، وبثقافته، وانتصاره الدائم لقضاياه السياسية بالخصوص إلى تلك الفترة التي قضاها جنديّاً في بلاد الشام، والتي لم يكن يخفي أنها كانت من أسعد الفترات في حياته.
في سن العاشرة احترف جان جينيه السرقة وحين حصل على الابتدائية هجر الدراسة إلى الأبد وبدأ رحلة التشرد.
وعندما عاد إلى فرنسا عام 1933، التقى جان جينيه بالكاتب الكبير اندريه جيد الذي كان قد فتن بمؤلفاته في سنّ مبكّرة. غير أنه لم يمكث سوى فترة وجيزة في باريس، فقد قرّر أن يسافر راجلاً في هذه المرة إلى ليبيا، وعند وصوله إلى أسبانيا عرف الجوع، وأمضى أيّاماً عصيبة أجبر خلالها على النوم في العراء.
وكان عليه عندئذ أن يعود إلى الحياة العسكرية ليجد فيها ما يمكن أن يبعد عنه شبح الجوع والتشرّد، وفي هذه الفترة انكبّ على قراءة أعمال كبار الكتاب الفرنسيين والعالميين، وكان دوستويفسكي الأقرب إلى عالمه، فقد وجد في رائعته “الإخوة كارامازوف” ما عمّق مفهومه للحياة والإنسان والوجود.
وإثر فراره من الجندية، وكان ذلك عام 1936، قرّر جان جينيه السفر راجلاً عبر أوروبا متحاشياً نقاط التفتيش، والجمارك، وقد استمرّت رحلته العجيبة هذه سنة كاملة، وخلالها قطع مسافة تقدّر بـ 8500 كيلومتر.
ويضيف حسونة في دراسته:
وكانت مدينة نيس الفرنسية نقطة انطلاقه، وبعد أن اجتاز إيطاليا، قطع البحر الأدرياتيكي إلى ألبانيا، غير أن شرطة الحدود قادته إلى اليونان، ومن هناك سافر إلى يوغسلافيا حيث أوقفته الشرطة في بلغراد لتودعه السجن لمدة شهر، بعدها قادته إلى الحدود الإيطالية، وقد ظلّ جان جينيه يتنقل من بلد إلى آخر، ومن مدينة إلى أخرى إلى أن حطّ رحاله في براغ حيث أمضى خمسة أشهر درّس خلالها اللغة الفرنسيّة لسيّدة تدعى آن بلوخ، وكانت تلك السيدة الحب الأنثوي الوحيد في حياته، غير أنه كان “حبّاً أبيض” كما كان يقول، وفي بولونيا التي وصلها عام 1937، اعتقل، وأمضى أسبوعين في السجن، بعدها اجتاز ألمانيا التي كانت تعيش الهيجان النازي، وعنها كتب في “مذكرات لص” قائلاً: “إنه شعب من اللصوص (يقصد الشعب الألماني)، هذا ما أحسست به في داخلي، وإذا ما أنا سرقت هنا فلن أقوم بأيّ عمل يمكن أن يحقّق لي الثقة بنفسي، أرضخ للنظام العادي، ولا أهدمه،أسرق في الفراغ”، وعندما عاد جان جينيه إلى باريس، كتب رسالة إلى آن بلوخ يقول فيها: “سأنزل بأسف إلى الجزائر،ومنها إلى النيجر، والكونغو، وبعدها أنطلق إلى أميركا”…
خارج السرب
خلال السنوات الممتدة بين 1937 و1942، عاد جان جينيه ليسرق من جديد، وبسبب سرقاته دخل السجن أكثر من مرة. ومرة سرق الأعمال الكاملة لمارسيل بروست، فكان العقاب 3 أشهر سجنا.
وكانت سنة 1943 سنة المجد والشهرة بالنسبة إلى جان جينيه الذي كان حتى ذلك الوقت “لصّاً محترفاً”، فقد اطلع الكاتب والشاعر جان كوكتو الذي كان يحظى بتقدير الأوساط الفرنسية المثقفة على بعض الأعمال التي كتبها جان جينيه في السجن. وكان انبهاره بها كبيراً حتى إنه لم يتردّد في أن ينطلق متجوّلاً في مقاهي باريس، وصالوناتها الأدبية للتنويه بها، معلناً عن ميلاد كاتب فريد من نوعه، كاتب لم يسبق له مثيل منذ فرانسوا فيّون، وأرثر رامبو.
وعندما وقف جان جينيه أمام القاضي بسبب سرقته لطبعة نادرة لديوان فرلين: “حفلات ظريفة”، قال المحامي الذي كلّف كوكتو بالدفاع عنه: “أنتم تحاكمون واحداً من أعظم الكتاب الفرنسيين في العصر الحديث!”. وهكذا تراجعت المحكمة عن الحكم على جان جينيه بالسجن مدى الحياة!
كتب جان جينيه في طفولته موضوع إنشاء رائع عن بيت جميل فسخر منه زملاؤه وقالوا للمدرس: “لكن هذا البيت الذي وصفه ليس بيته.. إنه طفل لقيط” فكره فرنسا والثقافة الفرنسية.
أعماله
عقب الحرب االعالمية الثانية، صدرت أعمال جان جينيه النثرية والشعرية في طبعات أنيقة عن دار “غاليمار” المرموقة، ولم تلبث تلك الأعمال أن لاقت رواجاً هائلاً لا في فرنسا فقط، وإنما في أوروبا، وفي أميركا الشمالية والجنوبية، ولم تلبث أن ازدادت شهرته اتساعاً بعد أن دخل عالم المسرح من بابه العريض منجزاً مسرحيّات حقّقت نجاحات جماهيرية باهرة.
وعندما أصدر سارتر عام 1952 كتاباً بعنوان: “القديس جينيه، الممثل والشهيد” بهدف التنويه بعبقريته، قرّر جان جينيه الابتعاد عن الأضواء، والفرار من بريق الشهرة التي أصبح يحظى بها ليعود إلى الأسفار باحثاً عن الوحدة، وعن السكينة الروحيّة. وخلال الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي، انشغل بالدفاع عن القضايا السياسية فقد ساند ثورة الطلبة في ربيع 1968.
مع القضية الفلسطينية
ساند حركة “بادر ماينهوف” الألمانية التي كانت تحرض على العنف الثوري ضدّ البلدان الرأسمالية، كما وقف إلى جانب حركة “الفهود السود” التي كانت تناضل من أجل تثبيت حقوق الزنوج الأميركيين.
وفي باريس شارك في العديد من التظاهرات المناهضة للأعمال العنصرية التي كانت تستهدف العمال المهاجرين، المغاربة منهم بالخصوص، ومتعاطفاً مع القضية الفلسطينية، أقام جان جينيه في المخيمات في الأردن، وفي لبنان مرات عديدة، وعاش بين الفدائيين أشهراً طويلة، ومن وحي ذلك كتب “الأسير العاشق” الذي صدر بعد وفاته بأشهر قليلة. وعندما غزت إسرائيل لبنان في صيف عام 1982، حرص على أن يكون في بيروت للتعبير عن تضامنه مع المقاتلين الفلسطينيين المحاصرين برّاً وجوّاً وبحراً، وعن مجزرة صبرا وشاتيلا كتب نصّاً بديعاً تميّز بشاعرية عالية.
وفي الليلة الفاصلة بين 14 و15 نيسان عام 1986 أدرك الموت جان جينيه الذي ملأ الدنيا وشغل الناس على مدى عقود طويلة وهو مقيم في فندق متواضع بالدائرة الثالثة عشرة بباريس. واحتراماً لوصيّته، دفن في المغرب، البلد العربي الذي أحبه أكثر من كلّ البلدان الأخرى، وهو يرقد الآن في مدينة العرائش. وهكذا كانت حياة ذلك المبدع الرائع الذي قال ذات مرة: “حياتي المرئيّة لم تكن سوى تنكّرات محجوبة جيّداً”.