الثورة أون لاين- علي الأحمد:
يترجل آخر الفرسان الكبار في المدرسة الرحبانية، يغادرنا في وقت ما أحوجنا لأن يكون معنا، كانت موسيقاه وألحانه تدخل القلب دون استئذان، موسيقى لاتعرف التعقيد واستعراض العضلات الذهنية، كان فناناً استثنائيا بكل ماتحمل الكلمة من معنى، لم يذهب بعيداً نحو التغريب والغربنة، بالرغم من خبرته ومعرفته الأكاديمية الرفيعة، ولم يتقوقع ويرتهن لمسار أخويه الكبار عاصي ومنصور، بالرغم من مشاركته لهما، الهمّ الموسيقي والإبداعي الواحد، كان حالة فريدة من الإبداع الموسيقي الذي وسم أغلب نتاجه الموسيقي الغزير، لم يتوقف أبدا عن التأليف والكتابة والمشاركة الموسيقية في كثير من الفعاليات والأمسيات الكبيرة، كان يضج بالحياة والحب، منحته الموسيقى ماكان يصبو إليه، كما منحها جذوة الروح وعطاء القلب والجمال الذي إنساب كالنبع الفياض، في مجمل الحانه التي ستبقى حالة إبداعية خاصة جداً في مسير ومسار الفن الموسيقي العربي المعاصر.
يرحل الياس الرحباني، ويغادرنا بعد أن أثرى ذائقتنا بعذوبة ورقة ألحانه ومقطوعاته الموسيقية الساحرة ، التي عشنا معها أجمل وأمتع اللحظات الهانئة. هي خسارة موجعة بلا شك، لموسيقانا العربية، لواحد من فرسانها الكبار، الذي عاش لفنه كمايجب، من دون تقديم تنازلات أو ارتهانات لشركات الإنتاج ، كان يدرك سر الموسيقى وجوهرها الأسمى، بعيداً عن الاستعراض الفارغ، اختط لنفسه مساراً موسيقياً مغايرا عن أخويه، بالرغم من الشراكة تحت ظلال هذا الفن العظيم، الذي منحوه كل النقاء والجمال والحب الذي يستحقه. كان إلياس الرحباني يريد أن يكون له صوت موسيقي ومسار إبداعي مختلف، بعيداً عن سطوة “الأخ الأكبر” وعن الدوران في فلكهم ومجرتهم الفنية الكبيرة، فكان حلمه الموسيقي سهل المنال، دون إدّعاء أو تصنّع، وهو الذي يختزن إضافة الى موهبته الخلاقة. العلم والمعرفة المتقدمة، ليتحقق هذا الحلم باكراً، ويبدع عقداً جميلا وزاهيا من الألحان والمقطوعات الموسيقية الساحرة ، ومساهمته الثرية، في العديد من الأعمال المهمة في الإذاعة والتلفزيون والمسرح والسينما ، وغيرها، حيث قاربت ألحانه ٢٥٠٠ لحنا، كان يكتبها على الدوام، بحبر القلب ومداد الروح المتمردة، هو بكل بساطة ومن دون تعقيد “السهل الممتنع” ، اجترح جماله الموسيقي من بيئته وأرضه التي ينتمي لها، كان معطاءً وكريماً ومحبا للجميع، لم تُعرف عنه عداوات او حسد فني تجاه الآخرين، لم يستكن أو يغريه النجاح والشهرة التي حازها على مدى أكثر من نصف قرن، كانت الموسيقى شغله الشاغل وهاجسه الوحيد في الحياة، سخّر لها كل مايملك من موهبة وحب وتقدير كبير لدورها في بناء وإرتقاء الإنسان جماليا وذوقيا ، كان لايهادن في مسألة القيمة والجودة الإبداعية، شأنه شأن أخويه الكبار عاصي ومنصور، ولهذا بقيت ألحانه كعلامة فارقة في المسير الرحباني.
ومن أشهر أعماله، التي نذكر بعضاً منها ” لشاعرة الصوت النبيل فيروز، كان عنا طاحون، حنا السكران، طير الوروار، يالور حبك،الأوضة المنسية، واسكتش جينا الدار، ولوديع الصافي ياقمر الدار، وقتلوني عيونا السود، ولنصري شمس الدين، منقول خلصنا، جينا الدار يا اهل الدار،ولصباح، كيف حالك يا أسمر، وشفته بالقناطر،قالو عني مجنونة، كما غنى من الحانه ملحم بركات وماجدة الرومي، وجوليا بطرس وغيرهم وبرز أيضا في الموسيقى التصويرية للأفلام كواحد من مبدعي تلك المرحلة نذكر منها ” دمي ودموعي وابتسامتي، وحبيبتي، وأجمل أيام حياتي، والمسلسل الشهير “عازف الليل، وغيرها
برحيله تطوى هذه الصفحة الى الأبد، ويغلق “نافذة العمر” ديوانه الشعري الوحيد، للأبد، وبالتأكيد سيترك هذا الرحيل المر، فراغاً ملموساً في الموسيقى العربية، بفقدان واحد من كبارها، ممن أرّخوا لحقبة فنية معطاءة وكريمة لأبعد الحدود، ويبقى العزاء، كل العزاء، في التراث الموسيقي الكبير الذي أنجزه ، عبر تجربة موسيقية تستحق كل الحب والتقدير، لفنان جميل كان يمتلك حضوراً ساطعا، ومكانة رفيعة في هذا الفن، كان يستحقها بكل تأكيد.