(على الولايات المتحدة والغرب إدراك أن عصر فرض الإملاءات والهيمنة انتهى، وأن التعاون واحترام سيادة الدول هو الأساس في بناء العلاقات الدولية)، هذه الرسالة التي أعاد وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف التذكير بها عشية مراسم تنصيب جو بايدن رئيساً للولايات المتحدة، ليست الأولى، وقد سبق وأن وجهتها العديد من القوى الدولية المناهضة للسياسة الأميركية، ولكن هل سيقرأها بايدن، ويتمعن في مضامينها ودلالاتها، ويدرك أبعادها في ظل المتغيرات الدولية الحاصلة؟، والأهم هل سيتدارك هذا الرئيس ما ارتكبه سلفه ترامب من جرائم سياسية وعسكرية واقتصادية قوضت كل أسس العلاقات الدولية، ووضعت أمن العالم واستقراره على حافة الهاوية؟، وهل سيتعظ أيضاً من فشل هذه السياسة التي أدخلت أميركا نفسها في عزلة دولية، ووضعتها كذلك على صفيح ساخن من الاضطرابات الأمنية تهدد مجتمعها الداخلي بمزيد من التفكك والانقسام؟.
بالنظر إلى وعود بايدن الانتخابية، والتصريحات التي أدلى بها بعد فوزه في الانتخابات، وما صرح به فريق إدارته بشأن الخطوط العريضة لسياسته القادمة، لن يكون هناك أي تغيير جوهري يختلف عن نهج سياسة ترامب، هو سيحاول فقط ترميم الخراب الذي أحدثه سلفه على صعيد العلاقات مع الحلفاء التقليديين في أوروبا، لضمان بقائهم في حظيرة التبعية الأميركية، وأولئك الأتباع هم فقط من يعولون على إعادة تلك العلاقات إلى وضعها السابق- قبل أن يضعهم ترامب في دائرة الابتزاز السياسي والأمني والتجاري- لأنهم أكثر حاجة اليوم للبقاء تحت مظلة الحماية الأميركية، وتجمعهم مع الولايات المتحدة مصالح استعمارية مشتركة، وبايدن سيجد في ذلك فرصة لمحاولة استعادة مكانة أميركا كقوة هيمنة عالمية تتحكم وحدها بالنظام الدولي، ولن يشذ في النهاية عن قاعدة تصنيف العالم بين ” أخيار وأشرار”، فنزعة التسلط والتفرد تدفع صناع القرار الأميركي لاستخدام كل أساليب القوة والبلطجة لفرض نهج الهيمنة، حتى وإن استدعى ذلك نسف أسس العلاقات الدولية برمتها.
سلسلة الإجراءات الخطيرة التي اتخذها ترامب خلال العشرة أيام الأخيرة لإعادة تسخين الجبهات الدولية، ليست من باب النكاية السياسية، لتعقيد مهام بايدن القادمة، وإنما هي بمثابة تهيئة الطريق أمامه لاستكمال مخططات ومشاريع الهيمنة من حيث وصلت إليها، فعندما تعيد واشنطن إطلاق العنان لإرهابيي داعش، وتتناغم معها حكومة العدو الصهيوني، وميليشيا (قسد) في تأمين الحماية لهم، ويتماهى معها الاتحاد الأوروبي بتشديد العقوبات والحصار، لن يكون بايدن بحاجة لنصيحة جيمس جيفري بألا يغير سياسة العربدة الأميركية في سورية، وعندما ترفع مستوى تهديدها لإيران بإرسال قاذفاتها وتعزيز أسطولها الحربي في منطقة الخليج، وتضع الكيان الصهيوني داخل قيادتها المركزية إلى جانب جوقة المطبعين لتكون شريكاً مباشراً في اتخاذ خيارات الحرب، سيجد بايدن كل الذرائع والحجج للتملص من وعوده لجهة العودة إلى الاتفاق النووي، وأيضاً عندما يتولى البلطجي بومبيو مهمة توسيع رقعة العقوبات على الصين وروسيا، ويلصق تهم الإرهاب يميناً وشمالاً بحق قوى مقاومة، ودول تدافع عن سيادتها واستقلالها، لن يكون بمقدوره سوى الإذعان لتنفيذ ما تجمع عليه الحكومة العميقة، صانعة السياسة والقرار الأميركي.
أميركا تبقى هي أميركا، بعنصريتها وبلطجتها وسياساتها وقراراتها، ونزعة الإرهاب متجذرة داخل كيانها، وما شاهده العالم أثناء غزوة الكابيتول، هو غيض من فيض التطرف الذي يتملكها، فحتى هذه اللحظة ثمة مخاوف أميركية من عدم إمكانية انتقال سلمي للسلطة، فالإجراءات الأمنية المشددة، المترافقة مع تحذيرات الـ” إف بي آي” من إمكانية حدوث احتجاجات مسلحة في جميع الولايات الأميركية تشير إلى ذلك، وسيناريو اقتحام الكونغرس مرجح تكراره، وربما يؤجل حفل التنصيب لساعات، كما سبق وتأجل التصديق على نتائج الانتخابات، فلا أحد يعرف ماذا ستخبئه الساعات القادمة من مفاجآت تعري أكثر حقيقة الصورة الأميركية، وديمقراطيتها المزعومة.
نبض الحدث – ناصر منذر