افتتاحية الثورة – بقلم رئيس التحرير – علي نصر الله:
قرارات جو بايدن الأولى من بعد التنصيب، ومن بعد الهدوء الشكلي لعاصفة اقتحام الكونغرس، أتت داخلية مُباشرة ربما تلبيةً لمزاج عام من جهة، لكنها من الجهة الأخرى تأتي بكل تأكيد لإظهاره كعاقل استلم سلطات البيت الأبيض. أما إشاراته الخارجية التي لم تُترجم على شكل قرارات فتُوحي بأنه يَميل إلى تخفيف التوتر الذي صَنعته إدارة سلفه دونالد ترامب، لكن من دون التفريط بأي مَقادير تؤدي لتراجع الهيمنة الأميركية.
مهما تَباين بايدن عن سلفه، فهناك قاعدة ستَحكم الأداء الأميركي، مُحدداتها وخيوطها بيد الدولة العميقة لا بيد الرئيس ومُرشحيه الذين يُمسكون معه دفة القيادة. دعونا نُثبّت هذه الحقائق قبل الذهاب للقراءة في الوقائع والسياسات التي ترسم مسارات سياسية وغير سياسية للعالم لا لأميركا وحدها، ذلك أن علاقة هذه السياسات والمسارات بنتائج صندوق الانتخابات تُشبه علاقة بائع مُتجول بعلوم الفضاء.
الحماقات التي يُحصيها كثيرون في هذه الأثناء لترامب، يُسقطون عَمداً ربما إحصاءاتهم السابقة المماثلة لأخطاء وحماقات بايدن وشروره المُتشظية قنابل عنقودية ومُشكلات ضربت مناطق واسعة في العالم، ذلك بمُقابل تقديمه كرجل عاقل غير صدامي مُتصالح مع القانون وكحارس للديمقراطية الأميركية المزعومة، بينما هو اليوم المدير التنفيذي الذي سيُشرف مباشرة على عملية استخراج مُحتوى صندوق الشرور ذاته الذي يحتل أولويةً ومكاناً بارزاً في البيت الأبيض.
الصندوق المملوء بالشرور، ربما فتحَه ترامب بأسلوب مُختلف، لكنه لم يُضف إلى مُحتوياته إلا القليل لجهة طريقة الاستخراج والتعاطي لا لجهة العبث بالمُحتويات بدءاً من الادّعاءات مروراً بالأكاذيب وليس انتهاء بالمُمارسات التي تَقتضيها، وقد نَفذها ترامب بذهنية المُقاول المُحتال الذي يَستقوي بفوائض القوة وخزائن المال فضلاً عن الحقائب المُتخمة بعقود إذعان تُخضع الحلفاء قبل الخصوم.. فليس بوسع بايدن إحداث التغيير إلا بالشكل أو بالتكتيك، لا بالإستراتيجيا، هذا في حال توافرت الرغبة والإرادة لديه!!
الأسئلة الكُبرى المَطروحة اليوم عالمياً لا في الداخل الأميركي تتجاوز تسجيل بايدن عودة إلى قانون “أوباما كير” من عدمها، ولا تتصل فقط برفع قيود هنا وهناك تتصل بالهجرة والسفر، وبالتبادلات التجارية، بل تَطرح مشكلات أكثر أهمية وعُمقاً: هل تتراجع واشنطن عن نقل سفارتها إلى القدس المحتلة؟ هل تتراجع عن حماقة اعتبار الجولان السوري المُحتل جُزءاً من “إسرائيل”؟ وهل ترفع العقوبات عن الكثير من الدول – الصين وسواها – وتتراجع عن جبهات الحروب التجارية التي افتتحتها معها؟ هل تتخلى عن الاستثمار بالإرهاب وتنظيماته؟ وهل تعود إلى الاتفاق النووي الإيراني، وإلى الاتفاقيات الدولية التي انسحبت منها؟
الإجابة عن هذه التساؤلات في ملعب بايدن وإدارته، وستبقى ككرة نار مُلتهبة، لأن كل سؤال منها مهما كانت إجابته فإنما ستَضع أميركا والعالم – ومنطقتنا – أمام احتمالات وخيارات مُتعددة، إذا كانت لا تبدو واضحة تَبعث على الارتياح، فإنها بالانطباع العام الذي يُستشعر من المسارات الأميركية الكُلية في الهيمنة فضلاً عن عدم الوفاء بالكثير من التعهدات ناهيك عن الواجبات، لا تَمنح أيّ فرصة للتفاؤل بتغيير سيَقع بسياسات واشنطن إلا في حدود تخفيف التوتر، لكن من دون التراجع عن الأحلام الإمبراطورية التي تُحقق الهيمنة، ولا تَعكس إلا الوجه الاستبدادي النهبوي لأميركا.