قرابة عام كامل انقضى ونحن مازلنا نتحدث عن الوباء، ونكتب عنه.. هذا الذي ملأ الدنيا، وشغل العالم بأخباره، وأسراره، وخطف الأرواح غير آبه بكبير، أو صغير.. وهو يأبى أن يفارقنا، أو أن يُخفت من حدة مهاجمته لنا.. يتربص بنا في مسافة فيما بيننا نعدّها ببضع خطوات، ويحجب عنا دفء العلاقات الإنسانية على تنوعها، ويطفئ معها أضواء بهجتنا، واحتفالاتنا.. ويختبئ في زوايا الأمكنة منتظراً لحظة انقضاض يرتاح بعدها في أجسادنا.
إلا أنه ورغم فظاعاته فقد فعل فعله بأن وحّد بيننا كبشر ليس في المظهر فقط ونحن نرتدي قناع الوقاية، وإنما في اشتراكنا بأنماط جديدة للحياة فرضت نفسها علينا بقوة، ففرضت بالتالي نمطاً جديداً من العولمة.. ولكنها هذه المرة عولمة تحت مظلة الإنسانية الشاملة التي تجمعنا من اتجاهات الأرض الأربع في تعاطف، وتآلف، وتعارف أكثر انفتاحاً وقبولاً للآخر، وتقارب في وجهات النظر.. إذ ما عاد هناك من فروقات بيننا في مواجهة خطر واحد يداهمنا جميعاً بآنٍ معاً.. فها قد أصبحت الدول تتشارك خبراتها العملية، ومعلوماتها العلمية في مجال الطب وقهر الأمراض، وتتبادل طرق التوعية، وأساليب الوقاية.
وثقافة مستحدثة نبتت في كل المجتمعات دون مقدمات ألا وهي ثقافة الحجر الصحي الذي شجعنا بدوره على مزيد من الابتكارات أصبحنا نتبادلها فيما بيننا، وننشرها على صفحات شبكة المعلومات مادامت الحاجة هي أم الاختراع، ودون أي مطالبة بحفظ حقوق هذا النشر، أو الابتكار الاختراع لاسم صاحبه.. وكم، وكم من الأفكار، والحلول العملية التي ظهرت في هذه الفترة بدافع التغلب على واقع عزلة كاد يصبح مألوفاً إلى حد كبير، أو شبه اعتيادي في ظل الظروف الراهنة.
فالوباء وما اقترفه بحقنا من أذية ليس أولها إمراضنا، ولا آخرها الآثار النفسية التي لحقت بكثير من الناس من قلق، أو انتحار، أو اكتئاب حاد، أو ما أصاب الأطفال من شعور بالغبن، والعزلة بعد إغلاق مدارسهم.. وغيرها من الآثار الاجتماعية من حالات الانفصال الأسرية التي خلّفها الحجر، وأصبحت الأسر بسببها بحاجة لعلاج، ودعم، ورعاية من نوع خاص.. وكذلك المشكلات المادية التي تأتي في المرتبة الأولى من تلك الأزمات نتيجة فقدان الوظائف.. إلا أنه ـ أي الوباء ـ لم يكن شؤماً بالكامل على بشاعته، فقد قرّب بيننا حتى أننا أصبحنا نعرض على الشبكة الذكية مذكراتنا، أو دفتر يومياتنا لنعبّر عن احتياجنا لهؤلاء الذين سيشاركوننا معاناتنا، أو مشاعرنا، وما نحس به في ظروف لم يسبق للجميع اختبارها، كتلك الكاتبة الصينية التي شاركت العالم في توثيق يومياتها منذ الأيام الأولى للإقفال التام في مدينة (ووهان)، ولكنها في خصوصية تجربتها حظيت بقليل من الاستحسان، وكثير من النكران لاختلاف وجهات النظر بين مَنْ يكتب، ومَنْ يقرأ. وما بين القراء أنفسهم.
كما دفعتنا أزمتنا لأن نعيد قراءة تلك الأعمال الأدبية العالمية التي تحدثت عن الأوبئة في أزمانها، أو ما يسمونه أدب الأوبئة، كرواية الطاعون لألبير كامو، والحب في زمن الكوليرا لماركيز، والموقف لستيفن كينج، وغيرها، وكأنها تتحدث عنا اليوم. كما أن الأزمة علمتنا أن ندير كل لقاءاتنا، واجتماعاتنا عن بعد فلا نؤخر، ولا نؤجل. بل أصبحنا أكثر ألفة مع الرقمية التي ستصبح لغتنا للتعامل في كل الاتجاهات، وكأننا حققنا قفزة سريعة في الدخول هذا المجال، وقطع مسافة فيه كنا قد تأخرنا عنها.. وتعلم أبناؤنا أيضاً كيف يتلقون تعليمهم عن بعد، فاكتسبوا مهارات جديدة ستُجنى ثمارها عما قريب.
إنها بعض ملامح قليلة من عولمة جديدة نريدها، تختلف في جوهرها عن تلك العولمة التي تريد أن تسلبنا هويتنا، وتسرق ملامح وجوهنا لتحولنا لنسخ عن بعضنا بعضاً ونحن نرسم قاعدة هرم لا ندرك جيداً مَنْ يتربع على قمته؟!.
فلتكن إذاً العولمة الجديدة التي تقربنا كشعوب، وأمم، وثقافات، وتنفي الاختلافات بيننا دون أن يذوب أحدنا في ثقافة الآخر، ودون أن نسلِب، أو أن نُستلب.
(إضاءات) ـ لينـــــا كيــــــــلاني