الثورة أون لاين – علي الاحمد:
تمرّ هذه الأيام، ذكرى رحيل عبقري من كبار موسيقانا العربية، الذين تركوا بصمات مضيئة في ذاكرة هذا الفن، محمد عبد الكريم، مبدع الارتجال والملحن الكبير وعازف البزق القدير، الذي شهد له الجميع بالريادة والإبداع، في زمن موسيقي نادر، كان له أعلامه ومبدعوه الأوفياء، شعراً ولحناً وصوتاً، تداعوا جميعاً، إلى إعلاء رسالة هذا الفن وتحميله مضامين روحية وجمالية، في مشهد موسيقي ساحر، قدم لتاريخ هذا الفن، نتاجاً إبداعياً حداثياً وأصيلاً بآن واحد، وكان من بينهم هذا الفنان القدير، الذي جاب بلدان العالم، متأبطاً آلته الجميلة هذه، حاملاً معه خزيناً إبداعياً وجمالياً، نثره فرحاً وجمالاً على أوتار وأنغام هذه الآلة الجميلة ذات التاريخ الشعبي العريق، والأهم مقدرته الفنية المائزة، وعزفه المعجز بحق، كما تنبئ عنه مقطوعاته الكبيرة، التي بقيت لنا بعد رحيله عن هذه الدنيا.
صحيح أن الجيل الحالي، لا يعلم كثيراً عن هذه القامة الإبداعية الكبيرة، فهو معذور في ذلك، لأن المعني بالشأن الثقافي مشغول ومنشغل بتقديم فتوحات الكليب العربي العتيد من الفجر إلى النجر، ولا يهتم بالقيمة الإبداعية والاحتفاء بروادها ومبدعيها الذين اجترحوا لنا كل هذا الجمال الموسيقي والغنائي المُحمّل بقضايا الوطن والإنسان الجوهرية، وهذا إن دلّ فإنه يدل على تسيّد وسطوة شركات الإنتاج والإعلان، المشهد ككل، وبالتالي “من يدفع للزمار يفرض اللحن الذي يريد” وهذا ما جعل العثور على إبداع هؤلاء العظماء الذين تحتفي بهم الشعوب من منطلق الاعتزاز بهويتهم الثقافية المائزة صعبا، نقول بات العثور على نتاجات هؤلاء العباقرة بمثابة البحث عن الوهم والسراب، وهذا يعود بالدرجة الأولى إلى غياب التربية الذوقية الجمالية، واتساع الهوّة العميقة والقطيعة المعرفية مع الماضي ورموزه ورمزيته كرافد إبداع مهم في مسير الثقافة العالمية ككل، التي أخذت أبعاداً مأساوية على أكثر من صعيد، في هذا الفن المضيّع، ولهذه الأسباب لا نلوم الأجيال الشابة الفتية، على جهلها التام بهؤلاء الرواد المؤسسين، لأنهم وُجدوا في عصر السوشال ميديا، ومرحلة الضغط الأبله على الأزرار من دون وعي أو معرفة، يحيط بهم سارقوا الوعي ومدجنوا العقول وتسطيح الذوق والذائقة، فتراهم مع كل أسف يعلمون كثيراً عن مايكل جونسون وشاكيرا ومادونا، أكثر مما يعرفون عن سيد درويش أو فريد الأطرش والرحابنة وغيرهم، فمن المسؤول عن هذه الكوارث والفواجع المستمرة؟ أليس غياب وتغييب التربية الجمالية، أليس أيضاً تقاعس المعنيين بالشأن الثقافي والفني في البلاد العربية، عن هذا المشروع النهضوي الكبير، وهذا ما جعل حجم الخراب كبيراً وعميقاً، وأثر من دون شك على خيارات هذا الجيل وأعطب إدراكه الجمالي والذوقي، لأنه تعوّد على هذه السوية الرديئة المنحطة من الأغاني المعلبة المبسترة من كل قيمة إبداعية تذكر، وكما يقال الفن تربية وتعوّد، ومن يتعود على القبح فمن المحال أن تستهويه الأعمال الراقية، لأن إحساسه بالجمال تم تخريبه وتجريفه بهذه النوعية السائدة المهيمنة بفعل المال الفاسد المفُسد، الذي نجح في تحريف وإفراغ رسالة هذا الفن ودوره العظيم في بناء عقل ووجدان الأمة.
قدم أمير البزق، إضافة إلى تطويره هذه الآلة، منتوجاً موسيقياً وغنائياً له خصوصيته المائزة، دمج من خلاله الفكر مع التقنية المستمدة من خزين ذاكرته الموسيقية الخلاقة، التي كرسته كما أسلفنا، كواحد من كبار فن الارتجال في موسيقانا العربية، من أشهر أعماله الكبيرة، نذكر على سبيل المثال لا الحصر العديد من السماعيات واللونغات والمقطوعات الموسيقية الساحرة واستخدامه للعديد من الإيقاعات الغربية في ألحان عربية بكل تناغم وانسجام، كما نرى في “رقصة الشيطان”، و”المعركة الموسيقية ” التي جاب من خلالها عوالم مدهشة من التعبير والتصوير الدرامي، ولا ننسى بالطبع حواره الموسيقي الشائق مع العازف التركي” اسماعيل شنيشكر ” حيث عزفا ارتجالات وأعمالاً في غاية الروعة والأداء المعجز، كما غنى من ألحانه مطربون كثر من أشهرهم :”نجاح سلام : رقة حسنك وجمالك، وتانغو ياجارتي ليلى، ماري عكاوي، كما غنته فايزة أحمد، ومحتارة يا ناس لسعاد محمد، والعديد من الأصوات العربية التي نهلت من هذا الفنان الكبير، روائع لا تنسى، لأمير البزق محمد عبد الكريم، الذي نسيناه في زحمة الأعمال التجارية الهابطة، حيث ذاكرة هذا الفن تتراجع وتذوي، وكأن شيئاً لم يكن. ذاكرة مثقوبة ومهترئة أصبحت بحاجة إلى ذاكرة، ولا عزاء للفن الأصيل الجميل، الذي شارك في بناء معماره هذا الفنان الاستثنائي بحق.