الملحق الثقافي:أمجد سيجري:
“دماسكيوس الدمشقي” أحد أهم فلاسفة القرن السادس ميلادي، والمعروف على نطاقٍ عالمي واسع، بكونه آخر الفلاسفة التابعين للمدرسة الأفلاطونية المحدثة. ولد في دمشق سنة 458 م، واسمه السوري غير معروف، إنَّما يعرف بلقبه الذي أخذه من أعرق مدن الأرض “دمشق”.
في شبابه المبكر، سافر إلى الإسكندرية وأمضى فيها 12 سنة، درس خلالهما الخطابة عن طريق مدونات العالم والفيلسوف “ثيون الإسكندراني” -”القرن الأول الميلادي”، وهي مدونات خاصة بالبلاغة وبتدريب الخطباء.
بعد دراسته هذه، عمل أستاذاً للبلاغة في الإسكندرية التي غادرها سنة 489 م إلى أثينا، بسبب الاضطهاد المسيحي لمن سموهم بالوثنيين، أي “الفلاسفة”، وهو الاضطهاد الذي بدأ مع “البابا كيرلس الأول” في بداية القرن الخامس ميلادي، وكان ضحيته العالمة الشهيدة “هيباتيا” التي قضت على يد عدد من الغوغاء المسيحيين، الذين قتلوها بعد أن نكلوا بها.
في أثينا، درس الفلسفة والرياضيات والفلك على يد العالم “مارينوس النابلسي” الذي كان على رأس مدرسة أثينا للأفلاطونية المحدثة، ثم تبنَّى فكر وفلسفة الفيلسوف الأفلاطوني المحدث “إيزيدور الإسكندراني” الذي خلف “مارينوس النابلسي” في قيادة المدرسة الأفلاطونية في أثينا، وتحوّل لدراسة الفلسفة والعلوم الطبيعية، ثم خلف الدمشقي “داماسكيوس” أستاذه “إيزيدور” في قيادته هذه المدرسة، وكان هو أخر فلاسفتها ونال لقب “أخر الافلاطونين المحدثين”، حيث أُغلقت مدرسة أثينا الأفلاطونية المحدثة سنة 529 م، على يد الإمبراطور البيزنطي “جستنيان الأول” الذي يعتبر قديساً بالنسبة للكنيسة الأرثوذكسية، فبالرغم من إنجازات هذا الإمبراطور على الصعيد المدني، وإعادة صياغة القوانين المدنية الرومانية التي ما تزال مستخدمة حتى اليوم في كثير من الدول، إلا أن قناعته الاستبدادية التي تقول “وحدة الإمبراطورية ناتجة عن وحدة الإيمان”، وهذا الإيمان الذي هو الإيمان الأرثوذكسي، جعله يضطهد كل من يخالفه، ومن جملة المخالفين كان “السامريون” الذين قاوموا التحول للمسيحية و”المانويين” الذين تمَّت بحقهم محاكمات صارمة، بحضور القديس الإمبراطور “جيستنيان” نفسه، وكانت أحكامها متفاوتة بين القتل المتمثل بالموت حرقاً أو غرقاً، والتهجير والتعذيب والسجن، إضافة إلى قمعه التصوف الشرقي، المتمثِّل بمدرسة أثينا التي تتبنى الفلسفة الأفلاطونية المحدثة، التي كان عمادها وقادتها شخصيات سورية ومصرية، وبالتالي كل من رفض التحول للمسيحية، عانى التهجير والقمع والترهيب والتهديد بالإعدام، وقد كان للفيلسوف “الدمشقي” نصيبه من القمع، هو وستة من زملائه الذين يُعتبرون من أعمدة مدرسة أثينا الفلسفية، حيث أغلقت مدرستهم على يد القديس “الإمبراطور جيستنيان الأول” سنة 529 م نهائياً، وتمَّ تهجيرهم فلجؤوا إلى فارس وأقاموا تحت حكم “خسرو الأول”، وبعد فترة عقد “جيستنيان” و”خسرو” معاهدة سلام كان من بنودها، عودة الفلاسفة السبعة إلى بيوتهم آمنين، وبالتالي عاد “الدمشقي” إلى الإسكندرية، وفيها كتب أعماله.. هكذا كانت نهاية المدرسة الأفلاطونية المحدثة، التي يُعتبر “الدمشقي” أخر فلاسفتها، وبالتالي انتهت مدارس الفلسفة اليونانية في أوروبا، وبدأت معها عصورها المظلمة.
“سيرة إيزيدور”..
لقد كان من أهم أعمال “داماسكيوس”، “سيرة إيزيدور”، وهو على ما يبدو تقليد في كتابة سيرة المعلم، كما فعل الفيلسوف السوري “فرفوريوس الصوري” مع معلمه “أفلوطين عندما كتب سيرته، لكن أهمية هذا الكتاب تكمن في ما نقله لنا “داماسكيوس” عن أفكار وعادات ومعتقدات الشرق القديم خلال القرن الخامس الميلادي، وتحديداً سورية ومصر، إضافة لقيام الدمشقي بذكر سيرته الشخصية، إلى جانب سيرة عدد من فلاسفة المدرسة الأفلاطونية المحدثة في تلك الفترة، وعلى رأسهم العالمة الشهيدة” هيباتيا” التي قضت على يد المسيحيين المتعصبين في الإسكندرية، بتحريض من البابا كيرلس كما يذكر سير “سارابيو” و”مارينوس النابلسي”.
يتحدث في الكتاب أيضاً، عن رحلته إلى أثينا مع معلمه “إيزيدور الإسكندري”، خشية أن يكون مصيرهما كمصير “هيباتيا”، وهي الرحلة التي عبروا خلالها، بصرى الشام وبيروت وبعلبك وحمص ثم الأناضول فأثينا، وفيها تعرفوا وناقشوا معتقدات تلك المناطق، وقد نقل “الدمشقي” إلينا بعضها عن طريق أعماله.
“ﻣﺴﺎﺋل وحلول ﺣول المبادئ ﺍلأﻭﻟﻰ”..
ﻫﻮ أيضاً كتاب له، وﻳﺒﺤﺚ ﻓﻲ ﻃﺒﻴﻌﺔ ﺭﻭﺡ ﺍلإﻧﺴﺎﻥ ﻭﺍﻟﺨﺎﻟﻖ، وفيه يفسّر الشكوك الخاصة بوجود المبدأ الأول لكل الأشياء، فيرى أن هذا المبدأ يتمتع بعمق إلهي لا يمكن أن نفهمه أو نعقله، كونه واحداً غير مُقسم ويستنتج أن الله لانهائي غير مفهوم، وكل الصفات التي يعرفها الإنسان كالخير والمعرفة والقوى، لا تعزى إليه إلا من خلال الاستدلال عليها عقلياً عن طريق آثارها، وبالتالي فإن طرح فكرة وحدانية الخالق التي لا تُقسم، كانت مخالفة لمن سبقه كالمؤسس “أفلوطين” وتلميذه “فرفوريوس” اللذين قالوا بالثالوث وحتى بالتاسوع، بالتالي كان على “دماسكيوس” جهد كبير لتفسير وشرح، مفاهيم جديدة في المدرسة الأفلاطونية المحدثة، وذات الطابع الفلسفي اللاهوتي.
على سبيل المثال، كان الشغل الشاغل للفلاسفة هو المحاججة من أجل الإقناع لتبرير وإثبات أفكارهم، أما اللاهوتيون فكانوا يرون أنفسهم على صلة مباشرة مع الله، وبأن كلّ ما يقدمونه من أفكارٍ يمثّل إرادته، وهنا يقف اللاهوتي عاجزاً في توضيح الموضوعات والمعرفة المتعلقة بالله. الموضوعات التي تعتبر بأن مصدر هذه المعرفة، هو الوحي الذي لا يمكن الاستدلال عليه أو استنتاجه بطريقة فلسفية، فكان “دماسكيوس” هو الطفرة في هذا المجال، فهو الذي جمع اللاهوت في الفلسفة، فنراه يجادل في المبادئ الأولى للكون، وقد استمد من الفلسفة العوالم الحسية والروحية الناتجة عن المبدأ الأول، ومن جهةٍ أخرى، نراه يقول إن المبدأ الأول والنهائي أي “الله” هو كل واحد لا يمكن تقسيمه أو مناقشته أو وصفه وتحديد صفاته. بتعبير أبسط “يفسر كل ما هو صادر عن الإله سواء أكان روحياً أم مادياً: “ لا تقترب من تحديد طبيعة هذا الإله الواحد غير المجزأ، وتعتبره خارج حدود الإدراك البشري”.. من هنا تم خلق مدرسة جديدة تجمع بين الفلسفة واللاهوت.
باحث
التاريخ: الثلاثاء2-2-2021
رقم العدد :1031