الثورة أون لاين – ناظم مهنا:
تشكل مدرسة فرانكفورت النقدية، بالنسبة لنا – القراء المعاصرون- برجاً ثقافياً نقدياً باذخاً في ثقافة القرن العشرين، ظهرت وسط عصر من الانفجارات على المستويات كافة، والجدل الذي أثاره أقطابها في جوهر الفكر وصميمه، ويعود إليها الفضل في تعميق الوعي النقدي التغييري لدى كثير من المثقفين على مستوى العالم، ويوجد إجماع قلَّ نظيره على مكانة المنتسبين إلى هذه المدرسة في عالم الفكر، فهم مفكرون كبار في مستوى الفلاسفة التاريخيين، وقد وعوا دورهم ومسؤوليتهم في تناول الفكر ووصفه وتحليله ونقده ونقد الواقع أيضاً والعمل على تغييره.
انطلقت النواة الأولى لمدرسة فرانكفورت في معهد البحث الاجتماعي في مدينة فرانكفورت الألمانية عام 1923 من نخبة من المفكرين الماركسيين النقديين أو الجدليين الديالكتيكيين الذين تطورت نظرتهم النقدية وطرأت عليهم تطورات كبيرة. لكن الثابت في الأمر هو البعد التحليلي لكتابها ومنهم: ماكس هوركهايمر الذي ترجم له إلى العربية كتاب (بداية فلسفة التاريخ البرجوازية), ترجمه إلى العربية التونسي محمد علي اليوسفي, وصدر في بيروت عن دار التنوير عام 1981؛ وثيودور أدرنوا الذي تزعم مدرسة فرانكفورت بعد هوركهايمر؛ ومن البارزين في هذه المدرسة النقدية أريك فروم وهربرت ماركوز وڤالتر بنيامين، ويوركن هابرماس الذي لا يزال الصوت الأقوى في نقد الحداثة وما بعد الحداثة وهو من أكبر فلاسفة العصر الحالي. دافع هؤلاء الفرسان عن العقلانية في روح الحداثة ودافعوا عن التنوير، حتى جيلهم الأخير المتمثل بـ.هبرماس، ورسخوا العقل النقدي، ووجهوا نقدهم بشكل مركز إلى اللاعقلانية في الفكر الغربي، وإلى أتباع الوضعية المنطقية الذين أعطوا الأولوية للتقنية النفعية.
ڤالتر بنيامين العقل الجدلي المتوقد:
على المستوى الشخصي، ومنذ مطلع الثمانينيات، كان إعجابي ولا يزال بأريك فروم، وتراجع إعجابي بماركوز في التحولات الأخيرة التي ختم بها حياته، إذ تحول من مفكر نقدي كبير إلى ممجد لليبرالية وعدَّها سقف التاريخ، وكان هذا مخيباً وبمرتبة ردة أو خيانة لماضيه.
لكن كانت شخصية المفكر والناقد المتوقد ڤالتر بنيامين ومصيره المأساوي قد أثرت بي، وجعلتني تواقاً لقراءة كل ما يكتب عنه. مات منتحراً عام 1941 عند الحدود الفرنسية الإسبانية بعد أن هاجر من ألمانيا إلى فرنسا فاراً من النازية, وبعد احتلال هتلر فرنسا، يقال إن موظف الجمارك الإسباني هدد بنيامين ومن معه بتسليمهم إلى السلطات النازية ما دفع ڤالتر بنيامين إلى الانتحار المدوي الذي هزَّ الأوساط الثقافية العالمية، وهذه حساسية عالية من ناقد كبير خسره العالم.
حلم بنياميين، كأي يساري، بتغيير العالم القديم وبالعدالة للبشرية عبر الانتصار على البرجوازية في أوروبا، وكانت خيبته الأولى قد شهدها في بلده ألمانيا عام 1920 في إثر اغتيال قادة اليسار الألماني: كارل ليكبنخت وروزا لوكسمبورغ. الهزيمة الثانية أيضاً كانت في وصول هتلر والحزب النازي إلى السلطة عبر الانتخابات عام 1933, ثم الكارثة الكونية التي تمثلت في الحرب العالمية الثانية على أرض أوروبا عام 1939.
درس بنيامين الفلسفة في جامعات: فرايبورغ، ميونخ، برلين، وأسهم بفاعلية في الحركة الشبابية، وترأس الجمعية الطلابية لجامعة برلين عام 1929، ووقف إلى جانب صديق عمره المسرحي والشاعر الألماني الشهير برتولد برخت وشاركه مواقفه وآراءه منذ عام 1931 .
تشكل بنيامين في بداية حياته كمفكر ميتافيزيقي، لكن تحت تأثير فلسفة كانط العقلانية توصل إلى الماركسية، وانخرط في صفوف الشيوعيين, وكان من أشد المتحمسين للثورة البلشفية. حلل بنيامين مجتمعه المعاصر وانتقد بشكل لاذع التفسخ الحياتي والروحي والثقافي للبرجوازية، وتشكلت ملامح دربه كناقد كبير بمستوى وشهرة جورج لوكاش وفلاسفة عصره.
خاض بنيامين جدلاً فكرياً مع مفكري عصره، ومع رفاقه في مدرسة فرانكفورت, واختلف معهم في بعض القضايا، ومن أشهر مجادلاته مع صديقه ثيودور أدورنو حول صناعة الثقافة وهالة الفن البرجوازي بشكل خاص. ويرى بنيامين أن الفنون الجماهيرية الجديدة كالسينما والتصوير الضوئي اللذين يشكلان ارتكاسة لهالة الفن، إذ تنضوي الهالة على كثير من الكذب والخداع والمراوغة ضد النقد، وفي الفن البرجوازي يوجد خداع بالاكتمال المفرغ من المضمون، وتغدو الهالة أيديولوجيا، وأي هالة تشكل بؤرة تزييف وخداع، وهي كما أرى تشبه المرض الخبيث، وتاريخ الأدب حافل بالهالات والمبالغات الخادعة ضد النقد، ويمكن لأي قارئ نقدي أن يلحظ هذه البؤر شديدة المركزية من الهالات، منذ العصر الكلاسيكي إلى يومنا هذا. دعا بنيامين إلى الإقلال من أهمية هالة العمل الفني، وإلى الحد من الهالة. رأى الرجل في “ذهول الجمهور وعدم انتباهه حيال الأشياء، فرصة لهم للخلاص من هالة العمل الفني، وفضاء يمكن فيه لملكات الجمهور النقدية أن تثمر بعيداً عن مفاعيل التقليد وآثاره الضغيانية”.
كان بنيامين في صداقة متينة وصلت إلى حد الشراكة في المواقف مع المسرحي الشهير برتولد يريخت، وكما كان بنيامين ضد الهالة الخادعة كان بريخت أيضاً ضد كل أشكال الإيهام الدرامي أو التأثير العاطفي الذي قد يحجب البعدين التحليلي والنقدي عن الجمهور.
.