الثورة أون لاين- علي الأحمد:
بالرغم من المكانة الرفيعة التي حازها واستحقها هذا المبدع الكبير، إلا أنه كان يعتبر أنه لم يقدم جديداً ذو شأن ، خاصة حين يتعلق الأمر بمُلهمه الأول الشيخ سيد درويش، ودائماً وبتواضع الكبار، كان يقول :نحن لم نفعل شيئاً يذكر أمام ما أبدعه هذا الخالد الذي نقل موسيقانا العربية الى مكانتها وموقعها الابداعي التي تستحق. وفي حقيقة الأمر، بالرغم من صحة هذا القول إلى حد ما ، إلا أن رياض السنباطي قام بدوره أيضاً، في رفعة وارتقاء موسيقانا العربية ، عبر ألحانه الأصيلة التي انسالت على عوده كشلال متدفق من الأعمال الخالدة التي لاتزال الى يومنا هذا، نابضة بكل الجمال الموسيقي النادر، تتناقلها الذائقة العربية بكل حب وتقدير لفنان مبدع واستثنائي بكل ماتحمل الكلمة من معاني ودلالات.
– بالطبع، لم يكن رياض السنباطي وحده في هذا المسير الابداعي الخالد الذي أبدع النهضة الموسيقية بدايات ومنتصف القرن الماضي، بل كان معه كماهو معلوم مجموعة من العلامات المضيئة التي أثرت وأغنت هذا الفن الأصيل بروائع خالدة من الصعوبة بمكان أن تتكرر، شعراً ولحناً وصوتاً ووجود ذائقة عربية تقدر الفن الراقي وتغتني بجمالياته وقيمه التعبيرية، حدث كل هذا في فترة من أخصب الفترات التاريخية إبان زمن المد القومي، حيث حمل هؤلاء المبدعين الهمّ القومي العربي كقضية ورسالة التزام نحو التعبير عن قضايا الوطن والانسان بالسلاح الأمضى الذي يمتلكونه عن سعة واقتدار الكلمة والنغم ، فكان أن شهد هذا الفن روائع خالدة عكست المناخ الثقافي المضيء، الذي كان سائدا آنذاك ، ليترجم كل ذلك عبر أعمال موسيقية وغنائية لافتة بأصالتها وتوقها الحداثي المعرفي، في تناغم آسر مابين التراث والحداثة، عبر مسار ابداعي أضاء وعينا الجمالي وأغنى ذائقتنا ولايزال، وكان رياض السنباطي أحد أهم فرسانه ومبدع جماله الموسيقي المائز.
– ولعل مايميز رياض السنباطي عن أقرانه في موسيقانا العربية، هو تبنيه في كثير من محطات ابداعه، للموسيقى الصوفية، موسيقى الحكمة والتأمل، حيث ألهمه شعراء كبار في هذا المجال على إبراز كوامن الجمال والجلال في تلك القصائد الشعرية الخالدة ، كالخيام، ومحمد إقبال، وأحمد شوقي وغيرهم، لتتحول على يديه الى لوحات بديعة من الفن الراقي، ساعده في ذلك وجود فنانة قديرة واستثنائية، ترجمت إحساسه الموسيقي عبر صوتها المعجز بحق الذي حلّق بألحانه العظيمة الى ذرى جمالية وتعبيرية، ومن هنا وجد السنباطي في أم كلثوم ضالته في تقديم ألحان كبيرة بكل المقاييس النقدية، الحان يمتزج فيها التطريب والتعبير والفكر، وهذا ليس بمستطاع أي أحد القيام به إلا عن موهبة عظيمة وفكر وثقافة موسوعية، كمانرى على سبيل المثال لا الحصر في روائعه ” رباعيات الخيام، والأطلال،سلوا قلبي، ونهج البردة، وشمس الأصيل، وياظالمني، وأروح لمين، ولسه فاكر، وعودت عيني، وذكريات، وحسيبك للزمن، وجددت حبك ليه، وغيرها من الابداع السنباطي المتفرد.حتى قيل فيهما” إذا أردت أن تتكلثم، فتسنبط، وإذا أردت أن تتسنبط فتكلثم” في دلالة على العلاقة الوثيقة التي ارتبط بها الأثنين على المستوى الابداعي. بالطبع لم تكن أم كلثوم وحدها في مسير الابداع السنباطي، فقد غنى من ألحانه مجموعة كبيرة من الأصوات المهمة كأسمهان، وعبد الحليم حافظ، وسعاد محمد، وليلى مراد، ومحمد قنديل، وكارم محمود، ونجاة الصغيرة، وفايزة أحمد، ووردة، ونجاح سلام وقائمة مهمة من أصوات الزمن الجميل، الذي قدم لنا ذخائر موسيقية وتحف غنائية تستحق الخلود بالفعل. ولايفوتنا في هذه العجالة، أن نذكر برياض السنباطي المطرب وعازف العود المبدع، فقد غنى العديد من الأعمال الراقية التي يمتزج بها البعد الصوفي والوجداني والسرد الدرامي كمانرى في “رباعيات الخيام، والأطلال، وعودت عيني، وعلى عودي، وفجر، وإله الكون، ونغم ساحر، التي لحنها للكبير وديع الصافي، ورحل من دون أن تسجل كما في أغنية بيني وبينك التي لحنها للكبيرة فيروز، ورائعته الجميلة أشواق، ودور ضيعت مستقبل حياتي، وأناهويت، للخالد سيد درويش، وغيرها من ابداعات هذه القامة الكبيرة في تاريخ الموسيقى العربية المعاصر، الذي بقي الى آواخر أيامه يدافع عن هويته الموسيقية العربية الأصيلة، كرافد ابداعي للفكر والثقافة العربية ككل. وعن ابداعه في الغناء والعزف على العود، يقول المايسترو “سليم سحاب” في مقال منشور :”ويمتاز صوت رياض السنباطي بجمال خامته وتملكه المطلق في المقامات والايقاع وحساسيته، وإحساسه المرهف وعُربه الجميلة الرائعة، وقدرته على إبراز أبعاد اللحن الدرامية والفكرية والتأملية والإنسانية والانفعالية، ولاننسى صفته الصوفية العميقة، وقدرة صوته على الخشوع في تصوير هذه الأعماق في أغانيه الصوفية. وقد لانبالغ ولانغالي إذا قلنا إن السنباطي من أنبغ من عزف على العود، إن لم يكن أنبغهم بالرغم من الآراء الكثيرة التي تفضل غيره.
ويمتاز عزف رياض السنباطي بالتقنية المطلقة لليدين، أي تملكه المطلق للريشة باليد اليمنى، واستعمالها بشكل مذهل في جميع تقنياتها وسيطرته التامة على الأوتار باليد اليسرى والتناسق المطلق بين اليدين في العزف للوصول الى التعبير من أعمق أعماق النفس البشرية، وتصوير كل حالاتها النفسية والوجدانية والفكرية. اضافة الى صفة التأمل الصوفي الفلسفي، وهي الصفة الأساسية، التي تشكل فكره الموسيقي الى جانب العمق الإنساني والوجداني.