الملحق الثقافي:د. مجدي صالح *
لا يختلف اثنان، على أن التعليم في جميع دول الوطن العربي، عليلٌ مثله مثل جسدِ الأمة، فكلاهما يعانيان من أمراضٍ عدَّة، كالجهل والتخلف والإرهاب والتغييب والتدليس. تلك أمراضٌ تحتاج لعلاج مناسب، وإلا فالموت العام نتيجة حتمية لا مهرب منه، بلا تجديدٍ للحياةِ كطبيعةٍ طبيعية في دورة حياة تلقائية، تحفظ للوجودِ استمراه ورقيّه.
لكلِّ شيءٍ معيار جودة، ابتداءً من الغذاء مروراً بالصحة، وانتهاء بالتعليم، فما الذي يجعلنا نغفل جانب جودةِ التعليم، وما تفرزه لنا وسائلنا من شخصياتٍ مزوَّرة تحمل شهادات حقيقية؟!. شخصياتٌ، تنظر للخلاص عبر انتماءاتٍ لكياناتٍ خارجية، لا عبر سيرورة تدفُّق العلم في شرايين الطلاب.
أين الخلل؟! هل الخلل بمنهجٍ علمي، أم بضعفِ القلب وقصور النظر وجوع الجيب؟!. قد يكون الخلل في كلِّ ما سبق. فعلاً، حيث تنام أوطاننا على حممٍ بركانية، وتتدثَّر بطبقاتِ شمسٍ حارقة، وأمواج رياح وزوابع ماطرة، في لحظة تتحرَّك جميعها من كلِّ جانبٍ، لتنهي في ثوانٍ ما بُني.
إن من ينتظر لحلول من الخارج، لا من التعليم، كمن ينكأ جرحاً ليغرغر العضو المجروح، بدلاً من الاعتناء به إلى أن يُشفى..
هجوم النمل على أمتنا من كلِّ حدبٍ وصوب، يجعلنا في حالةِ تفكيرٍ دائم، عن دور قطاع التعليم في بناء العقول وتوعيتها، وتحصين الأجساد من أي تطفُّل. ذلك يجعلنا نقف عند سبب ضعف دور المنظومة التعليمية في التكوين العام، فليس المهم بقاء التعليم في حالة إنتاج دائم، بل المهمُّ ما ينتجه وجودته ومقياس وطنيَّته، وإلا وجب التفكير بما يعيدُ الأشياءَ إلى نصابها.
لا شيء يُذهب العقل وينسف النظر ويجلط القلب، غير رؤية من حمل شهادة يبحث عن كيانٍ أو حزبٍ أو جماعة خارجية مستوردة، ليعطيها الولاء والسمع والطاعة، بدلاً من الانحناءِ أمام بلده بكل قدسية، فإذا كان التحصيل العلمي ينتج لدى البعض غريزة الولاء والعبودية لكيانٍ خارجي ما، فهذه كارثة ما بعدها كارثة، ونحن نرى سنوات مؤسساتنا التعليمية تنهار أمام أوراقٍ مالية، أو أفكارٍ دخيلة مغرية.
أقطارنا العربية جميعها تقدم خدمات التعليم بشكلٍ مجاني، أو شبه مجاني، بشقيه المدرسي والجامعي، وببنى تحتية ضخمة، عكس بعض دول العالم المتقدمة علمياً، وتفرض الرسوم الباهظة، والقروض المرهقة لطالب العلم، ومع ذلك نرى البعض منَّا، ينتظر فرصة ليطعن خاصرة بلده، ولا يبحث عن فرصةٍ ليرمِّم ما يمكن ترميمه، ويسهم في بناء وطنه.
عندما نراهم على شاشات التلفزة، يطحنون ويزمجرون ويلوكون ويقدحون، نستغربُ سبب كل هذا الحقد، وسبب عدم انخراط القادح والجاحد في تنمية مجال تخصصه. عندما نرى حامل شهادة يحمل السلاح ويكفِّر ويقتل بدمٍ بارد، نتساءل عن محتوى تحصيله وأين كانت نقطة الانحراف، لنفهم هذا السلوك الذي انقرض في الكثير من المجتمعات، ومازال ينشط ويفرخ في مجتمعنا بكلِّ نشاط وحيوية.
على الرغم من وجود وسائل إثراء معرفي رقمية، تضيف للمتمدرسِ أرصدة معلوماتية، نجد أن البعض يذهب إلى حيث توجد موائد اللئام الرقمية للتحصيل الطائفي، وإشباع نهم العقل بمعلومات تضليلية وتكفيرية، وتفسيرات مفصَّلة، بدلاً من تغذية العقل بما يصلح لبنائه، وإلقاء ظلال الإيجابية على المحيط، لتشكيل دوائر صحية محصنة في محيط المتمدرس الإيجابي، والتأثير على المتمدرس السلبي، وكبح جماح فورته الفاسدة في جسده، قبل تفريخه لفوراتٍ محيطة، تخلخل ثبات المجتمع وتعيق تقدمه، وتسقطهُ بشكلٍ كلِّي، بدلاً من ترميمه وتصحيح مساره.
في زمن وسائل الاتصالات الحديثة، والمعلومات الرقمية وسهولة توفرها، وعزوف البعض عن التنقيب عن المعلومات السليمة، وجهل البعض بطريقة البحث عما يسدُّ رمق عقله، ويمنعه من أن يكون فريسة للمعلومات المظللة والمزورة.. في هذا الزمن، نعيش خطورة سببها، خلق روبوتات بشرية يمكن السيطرة عليها عن بعد، وتحويلها إلى آلاتٍ مجرَّدة من قدرتها على التفكير الإبداعي، وعاجزة عن تولي مهمة النقل العلمي للجيل التالي كمسؤولية طبيعية.
يطول الحديث حول هذا الموضوع، الذي يبدأ في عنوانٍ واحدٍ، وينتهي بنتائج لها تدفقات جارفة للمجتمع. أما الحلول، فلا يمكن طرحها في مقالة أو كتاب، دون فتح أبواب مراكز الأبحاث للمختصين في دراسات الظواهر، والمختصِّين في علم الاجتماع. لا يمكن طرحها، دون سنِّ قوانينٍ صارمة ضد سرقة الأبحاث والأعمال الأدبية، وإنشاء قاعدة بيانات علمية تفضح لصوص الأبحاث بكبسة زر.
يجب تشكيل هيئةـ تضمُّ نخباً مختصّة بتحديث المناهج الدراسية، بشقيها المدرسي والجامعي، وبشكلٍ دوري. يجب استحداث مادة لتعريف الطالب بحقائق الأمور دون تزويرٍ أو تضليل، وتحصينه ضدَّ أي اختراقٍ، وتدريبه على التفكير بطريقة صحيحة، وتحليل المعلومة عند تلقيها. مادة القانون التي يجب أن تصاحب الطالب، منذ دخوله المدرسة، حتى تخرجه من الجامعة، لتكون النتيجة جيل منضبط وملمٌّ بالقواعد والقوانين.. جيلٌ حارسٌ يتصدّى لأيِّ انحرافٍ مهما كان.
إنها الجودة العلمية ومستواها، والإدارة وقدراتها، والمناهج وتطويرها، والرقابة ونشاطها. إنها مراكز بحوث تطويرية، ودراسات تشريحية، وتوصيات وأدوات تنفيذية.
*كاتب وروائي يمني
التاريخ: الثلاثاء9-3-2021
رقم العدد :1036