الملحق الثقافي:ثراء الرومي
جمعني بهنَّ جرح مدينتي الكبير، إثر التفجيرين الإرهابيين الحاقدين، اللذين استهدفا “قصر العدل” في دمشق، وأحد مطاعم الربوة.. كانت لي مع كلٍّ منهن محطّة، أثارت في نفسي شجوناً كثيرة، ومشاعر لا توصف.
إحداهن التقيتها على مفترق طريق، وانتظار لحافلةٍ لن تأتي، ولسيارة أجرة تأبى التوقف، لأن الطرقات المغلقة ابتلعت المارة، أو بتعبيرٍ أدق، جعلت السائقين يؤثِرون الانكفاء في منازلهم، على العمل بأجرٍ لن يوازي تلك المسافات الشاسعة التي سيقطعونها.
أثناء ذلك الانتظار الدهري، مددت يدي إلى حقيبتي بحثاً عن منديلٍ ورقيّ فلم أجد، ولأن حمل المناديل بشكلٍ دائم كان من أولوياتي، شعرت بحاجةٍ ماسة لوجود منديل معي، ربما هي حالة نفسية مرتبطة بهذه العادة، ولكونِ المكان ليس فيه متاجر لأشتري المناديل، والمطر بدأ بالانهمار، اقتربت من المرأة التي التقيتها وسألتها: “لو سمحت، معكِ محرمة، لقد انتهت المحارم التي كانت معي”.
انهمكتْ في تفقّد حقيبتها وجيوبها، لتُخرج في النهاية منديلاً واحداً وتمزّقه إلى نصفين. تقدم لي نصفه قائلة: لا أملك سواه، لك نصف ولي نصف”.
موقفٌ أثّر بي، وعنى لي أكثر مما قد يتخيّل أحد، شكرتها ومضيت في طريقي.
في موقفِ انتظارٍ آخر، جمعتني بامرأتين حافلة لم تكن لتجمعنا لولا ظرف ذلك اليوم، فلكلٍّ منّا وجهتها، وسائق الحافلة اشترط علينا أن نعطيه أجراً مضاعفاً، يختلف حسب وجهة كلّ راكبة أو راكب.
إلى يميني جلست سيدة خمسينية، راحت تقصُّ عليّ حكاية انتظارها الطويل، الذي امتدّ لساعاتٍ قبل أن تظفر بهذه الحافلة، أخذنا ندعو الله ملتمسين الفرج القريب، ونحسب كم من الأجيالِ من مراحل عمرية مختلفة، خسرت بلادنا في هذه الحرب اللعينة.
اختلفنا في تحديد العدد إذ قلت لها: “لقد فُجعنا بجيلين متتاليين”.. أجابتني مستنكرة: “جيلان فقط؟!!.. بل أربعة، احسبي معي سيدتي: الشباب الذين بدأت الحرب قبل انتهائهم من الخدمة، وأصبحوا في الاحتفاظ، بعدهم جيلان متتاليان ممن واكبوا الحرب، هذا عدا عمن سيناضلون لإنهائها”. ختمت كلامها قائلة بلغة العارف الواثق، وبتنهيدةٍ كدتُ أرى سعير النار فيها: “أنا أعرف.. فقد كان لديّ ابن”.
لفتني الفعل الماضي الناقص الذي بتر الجملة الأخيرة، وتناهى إلى سمعي كخنجرٍ مسموم، ولكنني قلت في نفسي: عساه يكون زلّة لغوية لا تشي بذلك الغياب المُر.. حقيقةً، لم يطاوعني لساني لأقول لها: “رحمه الله” قبل أن أتحقق من الأمر، فسألتها بخجلٍ: “كاااااان!!”، وأنا أنتظر رداً أقل قسوة وقهراً.
هزت برأسها علامة الإيجاب، وقد اكتنفت عينيها سحابة ألمٍ لم أستطع معها أن أطيل النظر فيهما، ورغم أنني شعرت بحاجتها للكلام، فقد أطبقت على حنجرتي غصّة بحجمِ موجةٍ عاتية، منعتني من مواصلة الحديث.
إلى يساري جلست سيدة أخرى، هربت بنظري من ذلك الألم الكبير، لتقع عيناي على رغيفِ خبزٍ تتناوله تلك السيدة، ومن جديد، حصل موقف مؤثر آخر، إذ مدّت يدها إلى ما تحمله من خبز، لتأخذ كسرة وتمدّ بها إليّ بارتباكٍ واضح: “تفضّلي.. شاركيني الخبزة”.. ابتسمتُ ممتنة رافعة يدي: “أشكرك.. لا أشعر برغبة في الأكل”.. ألحّت عليّ فأخبرتها، بأني ماكنت لأرفض خبزتها لو كان لي رغبة بأكلها، وأمام إصرارها الذي لم أجد معه فكاكاً، اقتطعت بيدي لقمة واحدة وقلت: “سآخذ هذه كي لا أخجلك.. شكراً لكِ”.
مضت بنا الحافلة، وكنت أول الواصلين إلى وجهتي “ضاحية الأسد”، فترجّلت منها، وتابعتْ بمن فيها إلى كلٍّ من “مخيم الوافدين” و”القطيفة”.
وصلتُ إلى بيتي، محمّلة بعصفِ مشاعرٍ غريبة، جمعتها نكهة وطن جريح.. لقد تشاركت مع أولئك النساء طريقاً وكسرة خبز، وسحائبَ دمعٍ، ومنديلاً!.
التاريخ: الثلاثاء16-3-2021
رقم العدد :1037