الملحق الثقافي:غسّان كامل ونّوس *
ليس يسيراً الحديث عن موضوع واسع بهذا العنوان، وفي حيّزٍ محدود من الصفحات؛ فيما الحرب المعقّدة على سوريّة؛ بكلّ ما تمثّله من عراقة، وتنمية، ومواقف، وتطلّع إلى المستقبل الكريم، لمواطنيها ولشعوب العالم؛ لا تزال قائمة بأشكال متعدّدة، مستعادة ومتجدّدة، تنقلت فصولها القارصة في مختلف المناطق.. لكنّ عقداً من السنين العجاف في غبار المعارك، وضجيج السلاح، وضباب المعلومات، وأنين المفجوعين بالفقد، والموجوعين من إصابات في الأجساد والأنفس، والبحث عن أطياف المغيّبين، مع فحيح الإعلام ولهاثه وتلمّظه أحياناً، ومشاهد الدماء السائلة والمتخثّرة، ومرارة الخسران المادّيّ والروحيّ؛ مدّة ليست قليلة؛ إضافة إلى ثقلها النوعيّ، وغلظة أوقاتها، ومساراتها الواخزة، وضغوطها المقيمة والمطّردة، ويمكن، من خلال هذه السنوات، فتح كوّات إضاءة، لرصدِ حالاتٍ ومواقف وآراء وأعمال لعدد من المثقّفين. يمكن، أن يفيد هذا في تصوّرِ المشهد العام، أو الإشارة إليه، بملامحٍ عامّة وعلامات فارقة..
وإذا كانت فظاعة الوقائع، وشراسة الحقد، وضراوة المواجهات، وجمرات الحرائق وألسنتها، في كلّ الجهات، وتتقرّاها الحواس جميعها؛ إضافة إلى تعدّد الموارد الموقِدة وتنافرها، وحنكة التضليل، وإلحاح القول والتعليل المتباين، وتكاثر المحلّلين، وتناثر التحليلات.. إذا كانت كلّ هذه عوامل تؤثّر على الوعي ومجسّاته، فيصاب بعضٌ بالدوار والحيرة والبحث عن خلاص؛ أيّ خلاص، من دون أن يجعل الاستمرار والتكرار لهذه العوامل أو بعضها، سبيلاً إلى التعوّد واللامبالاة، والقصور العقليّ، والتخثّر الحسّيّ؛ أو هذا ما يُفترض أن يكون، لدى من يحافظ على توازنه، وقدراته المستحكمة، واستشعاراته المقيّمة، ويستطيع المقاربة والمقارنة والقراءة والتفسير والتأويل، والتبصّر والفهم، والاستنتاج، ومن ثمّ اتّخاذ موقف، يعبّر عنه كلٌّ بما يقدر عليه من وسائل وأدوات، وما يرغب به من مبادرة، وما يمتلكه من جرأة، وشجاعة، وثبات، واستعداد للصمود والتضحية.. وهذه بعض خصال المثقّفين؛ الأدباء والفنّانين، والمفكّرين، والباحثين، ومن امتلكوا حدّاً مقبولاً من الثقافة بمعناها الإيجابيّ؛ بمنحييها المادّيّ والمعنويّ، وليس مقبولاً ممّن يسمّى مثقّفاً بأيّ معيار، أن يضيع عن جوهر الأشياء، وأسّ القضايا، وأساس المعضلات، وعلّة الحوادث الكبرى على الأقلّ؛ ناهيك عن الوقائع والتفاصيل التي تشكّل ملعباً للشياطين على شكلِ البشر! مع علمنا واعترافنا باختلاف مستويات الثقافة لدى هؤلاء، وتعدّد انتماءاتهم وتوجّهاتهم ومصالحهم؛ فيما يفترض أن يكونوا فوق ذلك كلّه، واقفين مع الحقّ، مدافعين عن الوطن، وينبغي ألّا تتوه بوصلة أيّ منهم، أو جميعهم؛ لأنّ الحقّ واحد، وجهات الباطل عديدة؛ بتنوّع المصادر وإمكانيّاتها، والنيات الخبيثة، والغايات القاتمة، والنفوس الأمّارة بالفجور والنكران، والجبهات والوسائل والأدوات، وتمايز المراحل، والمشاهد، والتعبيرات…
قبل أن نتحدّث عن المواقف المتباينة للمثقّفين، على اختلاف مواقعهم ودروبهم وسبلهم، لا بدّ من الإشارة إلى قناعتنا بأنّ التعبيرات الإبداعيّة عن حدثٍ لا يزال قائماً، وحريق لا يزال يتّقد، ويتنقّل، مع الصخب والتهويل والترويع؛ ليس سهلاً، وقليلاً ما تنجو مثل هذه الأعمال من التسرّع؛ مع تسارع سيلان البركان وارتفاع نفثاته، وتأثيرات الانفعال المباشر، وحرارة المواجع، وقساوة الفجائع؛ ما يؤثّر سلباً على قيمتها الفنّيّة! يضاف كلّ ذلك، إلى صعوبة ما قد تعبّر عنه الكلمة أو حتّى الأدوات الأخرى، مع هدير الطوفان الواقعيّ المؤثّر للأحداث، والمنظور عياناً، والمشهود رؤية وأحاسيس؛ والطغيان المتراكم والمتسارع والمروّع والمحرّض للصورة، التي تعيش الوقائع كلّها، قبل أن تحدث ربّما، وفي أثناء حدوثها، وتستمرّ في تكرارها وتجزئتها وفبركتها حسب المثير فيها والمطلوب منها، والتعليق عليها وتجييرها حسب مواقف المتحدّثين، أو توجّه المنبر الذي يعرض، ومصلحة الداعي أو الراعي المتنبّه لـ “قطيعه” و”حرّاسه”، والواعي لأهدافه وغنائمه؛ مهما كانت الجرائم والضحايا، والنتائج الكارثيّة للبلد وأبنائه وإنجازاته.
أعود إلى القول: إن فصول العاصفة تتالت، وأصداء الأحداث تكاثفت، ومديات التبعات استطالت، ومضى من الوقت ما يكفي، لإنضاج الحالات، التي تنتج فنّاً يتعلّق بموضوعات الحرب وآثارها وانعكاساتها، وتتولّى إمكانيّات الكاتب وموهبة المبدع، ورؤاه، صياغة مقدّرة، تتجاوز المنظور، أو تتناول زوايا لم يُلتفت إليها في خضمّ الانشغال، أو جيشان العاطفة المحمومة، أو توثّق بعض ما يستحقّ أن يبقى في الذاكرة والوجدان؛ وهو واجب على المثقّف، وحقّ للجيلِ الذي يعاين ويعاني، والأجيال اللاحقة، التي ستتأثّر، وقد تتعثّر بمفرزاتِ ما يجري، بدرجة أو أخرى، وبهذا الشكل أو ذاك.
ولن أنسى أنّ هناك أشكالاً أخرى وأساليب للتعبير، منها المقالات، والحوارات، والمقابلات، والمبادرات، التي يمكن أن يقودها المثقّف، أو يشرف عليها، أو ينخرط فيها؛ فاعلاً لا منفعلاً، منطلقاً من وعيه وذاته، لا منساقاً وراء نفوذ، أو حبّاً في مغامرة صوتيّة، أو راغباً في ظهور وانتشار، أو استغلالاً لحالٍ أو ظرف، أو بناء على حاجة أو طلب.
ذكرتُ هذا في أكثر من مناسبة: إنّ المثقّفين لم يشكّلوا جبهة ثقافيّة حقيقيّة متماسكة فاعلة، مواجِهة للمعتدين الحاقدين المحلّيّين والخارجيّين؛ (وقد كنت في موقع يمكِّنني من الملاحظة والمتابعة والإطلالة الثقافيّة، على مديات أبعد من حدود القطر كلّه، إلى مواقف بعض المثقّفين العرب، وتساءلتُ ذات اجتماع للاتّحاد العام للأدباء والكتّاب العرب في مسقط، أواخر العام (2013م) أمام وفود الاتّحادات والروابط والجمعيّات والأسر الأدبيّة العربيّة جميعها: هل تحوّل المثقّف العربيّ إلى لاعبِ كرةٍ محترف، يتلبّس قميص من يدفع أكثر، ويسدّد ليسجّل له أهدافاً في مرمى خصومه، وفق مصلحة مشغّليه؟!). وإذا كان الأمر يمكن تفهّمه لا قبوله، في المراحل الأولى من التحرّكات والأحداث، فإنّ الحال استمرّت مع مرور الوقت، ولم يتغيّر الكثير، حتّى لا نقول لم يحدث تغيّر حقيقيّ محسوس، ولم تظهر تلك القوّة الصلبة الواعية المؤمنة بالوطن والإنسان، المتجذّرة في المواقع، التي يتعرّض فيها المواطنون بمختلف شرائحهم، لكلّ أنواع الإجرام من تقتيلٍ وتشريد وحصار.
اقتصرَ الأمر على مواقف فرديّة متباعدة، وأصوات ونشاطات وأعمال متناثرة هنا وهناك.. وللأسف؛ انكفأ كثيرون، حتّى عن التعبير عن موقفٍ وإبداء رأي، ومنهم من كانوا مسؤولين ثقافيّين وغير ثقافيّين لسنواتٍ طويلة، وفي مواقع متعدّدة ومتقدّمة، ومكثوا في الحال الرماديّة منتظرين ما ستؤول إليه الأمور؛ أمّا من خرج عن منطق الثقافة بمعناها الإيجابيّ الإنسانيّ مادّيّاً ومعنويّاً؛ وأبسط معانيها التمييز بين من يدافع عن وطنه وبلده وأهله، وبين من يستهدف الممتلكات العامّة والخاصّة، ويضرب الناس بعشوائيّة؛ ليدمّر البشر والشجر والحجر، ووقف ضدّ الوطن، ورفض حتّى إدانة العدوان والإرهاب، والارتهان إلى الخارج المعروف بتاريخه القاتم بحقّ الشعوب، أو بالعمالة والاستسلام، بذرائع مختلفة؛ فلم يكونوا أقلّ أذى من الإرهابيّين؛ بل كانوا منظّرين لهم، مسوّغين أفعالهم، ومنهم من صار نجماً على الشاشات، التي تنفث السموم على أبناء وطنه، وللأسف كان نجماً في المناصب والمواقع والاستئثار بها لمنفعته الشخصيّة، والمشاركة في الفساد والإفساد، الذي يدّعي أنّه يقوم ضدّه، أو يطالب، أو يرضى بتخريب الوطن من أجل مواجهته.
أمثال هؤلاء، لا يمكن الاعتداد بهم، أو الإيمان بثقافتهم؛ إن كانت تصحّ تسميتهم مثقّفين؛ فالشعب العاديّ بمختلف شرائحه، المثقّف بحواسه ووجدانه ومشاعره وأصالته ومواقفه، في أيّ مكانٍ كان، هو الذي صمد وقاوم العدوان بمختلف أشكاله، وقدّم التضحيات، وشيّع من تيسّر له من الضحايا، وتعامل مع استشهاد فلذات أكباده بصبرٍ وبعد نظر، وهو الذي أسهم؛ بشكلٍ كبير وأساسيّ، في حماية الوطن، وإيصاله إلى طريق الخلاص؛ مع جيش وطنه وحلفائه.
وعلينا أنّ نذكر باحترام وتقدير، فئة قليلة من المثقّفين، ظلّوا ثابتين مع شعبهم وجيش وطنهم العزيز، بالرغم من الترغيب والترهيب والضنك والظروف المضنية، والأحوال الاستثنائيّة بكل المقاييس، وعبّروا عن ذلك من دون خوفٍ أو تردّد، عبر المنافذ المتاحة، وبالوسائل الممكنة.
ولا أظنّ أنّني أضيف الكثير، إذا ما قلت: إنّ كتابات وأعمالاً كثيرة، تناولت الموضوعات المعيشة، والأوقات الشائكة، والممارسات القائمة، والانعكاسات الحادّة للحرب الضروس، لم تخلُ من التسرّع والمباشرة، وموادّ أخرى، كانت تميل إلى الحياد، أو محاولة التمويه، وعدم إيضاح الموقف أو الرأي؛ ليس لأسباب فنّيّة مسوّغة؛ بل لأسباب أخرى، وإنّي لأندهش أحياناً، من محاولات بعض الكتّاب، وفي صفحاتٍ ومنشورات عديدة، ومن بين أبناء الوطن ومسؤوليه ربّما، سابقاً وحاضراً، أن يبدو محايداً، وهل في الوطنيّة حياد؟! وهل أمام العدوان تريّث أو ترقّب أو انتظار؟! وكيف يمكن أن يكتب، أو يظهر بمظهر المدافع عن حقوق الناس، مع التعمية على ما يقوم به المعتدون، وتجاهل ما يتابعه، أو يعيشه من حالات مدمّرة وخانقة، متغاضياً عن الأسباب الحقيقيّة والممارسات الفاقعة؛ متعالياً على أوجاع الناس.. وليس من الصعوبة استنتاج ما يروم إليه، وبطلان ما يذهب إليه، ولا يمكن غفرانه أو تسويغه فنّيّاً أو إنسانيّاً؛ ولا سيّما أنّ هناك مثقّفين عُرفوا بيساريّتهم، وشعاراتهم التقدّميّة العلمانيّة، التي لا تأخذ الدين بالحسبان، وجدناهم يتحالفون مع أشدّ المتطرّفين دينيّاً، ويرفعون راياتهم، ويتبنّون خطاباتهم..
وهناك من دون أدنى شكّ، نتاجات معبّرة وقيّمة؛ كتبت ونشرت وعرضت، وأخرى لاتزال تنتظر؛ لصعوبةِ حال الوصول والإيصال والنشر، والعجز المادّيّ والورقيّ، والاكتفاء بالعرض الالكترونيّ، حتّى من مؤسّسات عريقة رسميّة وخاصّة؛ ولا سيّما في أوقات لاحقة؛ لكنّني- للحقّ- لست الآن في موقع القادر على تحديد نسبتها؛ مع أمل وقناعة بأنّ هذا سيتواصل مع مرور الوقت، وتخمّر الصور والمشاعر، ونضوج الرؤى، ووضوح الرؤية، والتمكّن من المراجعة الهادئة، لِما كان ويكون، ويمكن أن يكون.
وهناك للأسف، من تماشوا مع مجرى الوقائع؛ فعادوا ليظهروا متقمّصين الدور الوطنيّ، بعدما رأوا الكفّة مالت لصالح الوطن والدولة؛ متهيّئين لمكاسبٍ جديدة؛ منهم من حصل عليها، ومنهم من ينتظر!.
إنّنا لا يمكن أن ننكر، أو نتغافل عن مشكلاتٍ كثيرة داخليّة، كانت قائمة قبل الحرب، وتفاقمت خلالها، وظهرت دمامل جديدة وأورام خبيثة، مستغلّة الحال غير الطبيعيّة، والانشغال بما هو أهمّ، مستفيدة من المشاركة بشكل أو آخر، في المواجهات أو المساعدات، ولا بدّ من التخلّص منهم سريعاً. ولكنّ هذا لا يسوّغ، بأيّ شكلٍ من الأشكال، مواقف وأقوال ومطالبات وشماتات بمؤسّسات الدولة ومواطنيها، لاتزال تقال؛ كما لا يمكن اتّهام من نزح أو لجأ مضطرّاً؛ ولم يكن له حيلة، ولم يقف مع الجهات التي أمّنت خروجه أو سهّلته، أو زيّنته، وقد عانى بعضهم، ويعاني، من مساومة وعنصريّة وابتزاز، وعلى المثقّف أن يكون متيقّناً ممّا يقال ويقول، ويكتب، ويوثّق، وينشر…
كما لا يمكن ألّا نلاحظ؛ نحن المثقّفين، أنّ أشكال الحرب على المؤسّسات والمواطنين متنوّعة، من الميدان، إلى السياسة، إلى الإعلام، إلى الاقتصاد، إلى المجتمع، إلى التضليل، مع بثّ الإشاعات، وطرح المصطلحات والشعارات المناسبة لما يريده أصحاب الحرب الكثر، من مموّلين ومحرّضين، ومسلّحين ومحاصِرين.. ولا يكفي أن نتفهّم ذلك، أو نعيه، ونبقى ساكتين؛ بل لا بدّ من أن يكون الموقف واضحاً وصريحاً؛ سواء أكان من خلال كتابات متنوّعة، أو أعمال فنّيّة، أو أيّ وسائل ثقافيّة أخرى.
ومن الضروريّ اهتمام المثقّف بدوره بعد الحرب، التي نأمل أن تنتهي قريباً، وتستعاد جميع الأراضي المستباحة، ويعود جميع من يريد العودة إلى دياره، ويعيش بين أهله وأصحابه بأمان وكرامة؛ إن هناك أجيالاً لم تتعلّم، وأخرى لديها عجز وقصور في الاطّلاع والمعرفة، والمشاركة الحيويّة في البناء والإعمار، داخل القطر أو خارجه، وكثيرون انساقوا إلى الضفّة الأخرى تضليلاً أو اضطراراً، وهناك من اتّجه إلى أيّ مهنة ليعيش؛ وهم كثر؛ فمن أين لهم الثقافة؟! وكيف يكتنزون المعرفة وسواء السبيل؟! وإذا كان يمكن ترميم وضع التعليم، بالتكثيف، ودورات التأهيل، وضغط المناهج، فإنّ أمر الثقافة مختلف، هي التي يتشرّبها المرء ولا تُلقّن، وتتطلّب تأمين الأجواء والأحياز والظروف المناسبة، ومن الأهمّيّة بمكان، أن يكون ما يقدّم لكلّ شريحة من موادٍ وخطابات ثقافيّة متناسباً مع مستواها، وفق خطط ومشروعات للترميم والإغناء الثقافيّ، ولا بدّ من الخروج إليهم؛ حيث هم، أو استقطابهم أو تشجيعهم وتحفيزهم، وإشغالهم بما هو مفيد معرفيّاً وثقافيّاً؛ ليكونوا فاعلين في الحاضر والمستقبل؛ كما من الملحّ الاهتمام بأصحاب المواهب والإمكانيّات المميّزة في كلّ حين؛ قبل الكوارث، وفي أثنائها، وبعد انتهائها.. وهناك لا شكّ، مواهب تُظلم، فتضمر وتموت، في كلّ مكان وآن، ولكنّ الظلم يكون مضاعفاً عليها بعد الحادثات والمحن، ولعلّ ظلم المثقّفين لأصحاب المواهب الثقافيّة أفظع وأمرّ، ومن الطبيعي أن يكون هذا في نظر المثقّف ووعيه؛ سواء أكان مسؤولاً ثقافيّاً (ويا ليته يكون مثقّفاً حقيقيّاً!)، أو خارج المسؤوليّة المباشرة في حيّزه أو نطاق عمله، أو علاقاته الأرضيّة أو الافتراضيّة، ويفترض تجاوز الطرق التقليديّة المعروفة من نشاطات وإعلان وإعلام ومسابقات.. مع الانتباه إلى أنّ الظروف الخاصّة والعامّة، لا تسمح في مثل ظروف حرب ضارية في جميع المجالات، لمثل هذه النشاطات، أو لا يتاح لها ذلك، مع انقطاع التواصل بشتّى أنواعه، أو تعثّره، لأسباب متعدّدة، مع صعوبة التنقّل مادّياً وعمليّاً، ومع الحالة النفسيّة للناس؛ فهل هي راغبة وقابلة لمثل هذه المسائل؛ وهي المهتمّة بالسعي المحموم لتأمين لقمة العيش؛ في ظلّ ارتفاع ضغط الحاجات والمسؤوليّات، ويبقى للمثقّفين أن يجترحوا الحلول، ويقوموا بالمبادرات الخلّاقة، وإن كانت أحوال كثيرين منهم، لا تقلّ بؤساً وانضغاطاً، وحاجة.. لكنّها مسؤوليّة أخلاقيّة وطنيّة وجدانيّة ملحّة، في أوقات حرجة وأوضاع غير ميسّرة؛ كالتي نعيش.
وهناك من يقول، بحسن نيّة أو بعكرها، بأنّ الثقافة الآن ليست من الأولويّات؛ مع الحاجات المطّردة وضيق الحال المستشرس، وضرورة الترميم المادّي والنفسيّ! لكنّني أرى أنّ الحلّ الثقافيّ هو أهمّ الحلول المطروحة أو الممكنة، وأنظفها، وآمنها، وأبقاها وأجداها؛ (ولقد ذكرت ذلك في أكثر من مناسبة ومنبر ومقام؛ ومنها الاجتماع الأدبيّ العربيّ العام، الذي سبقت الإشارة إليه في مسقط، وجاء في قرارات الاجتماع النهائيّة، ما يفيد باعتماد الحلّ الثقافيّ؛ حيث يكون ذلك ممكناً؛ وأشير هنا إلى أنّ مثقّفين عرباً، في غالبيّة الوفود الأدبيّة العربيّة في هذا الاجتماع، كانوا متعاطفين مع سوريّة، في جلسات رسميّة، ولقاءات جماعيّة ومنفردة؛ معترفين بفضلها القوميّ في التعليم والمساعدة والنضال والمواقف المشرّفة!).
إنّ الثقافة لا تعني المثقّفين والمهتمّين بها والقائمين عليها فحسب؛ بل تهمّ كلّ الناس، في أيّ شريحة وموقع وحين؛ وهي كالنسغ في النبات، الذي يفترض أنّ يصل إلى أبعد غصن وورقة وثمرة؛ لتبقى وارفة معطاءة، وهي ضروريّة في هذا الوقت أكثر من أيّ وقت؛ مع إعادة البناء والإعمار، ورتق الصدوع، وكفكفة المواجع، والخروج من آثار الحرب المدمّرة، إلى مرحلة النهوض المتسارع المحصّن، ضدّ ما يوهن العزيمة، ويطيل الندب والتأسّي والندم؛ فما نحتاج إليه، مزيد من الوعي والأمل، والحرص على استثمار كلّ الإمكانيّات لدى جميع أبناء الوطن، وهذا ما تؤمّنه الثقافة وتنمِّيه، وما يحمّل المثقّفين أوّلاً وسواهم، مسؤوليّة مضاعفة، ومهمّة دائمة، ومبادرات خلّاقة، وخطوات واثقة مدروسة في السبل والمجالات كافّة.
*كاتب وقاص
التاريخ: الثلاثاء23-3-2021
رقم العدد :1038