«الليبرالية الجديدة».. والحرِّيات الشريرة

 

الملحق الثقافي:هفاف ميهوب:

في مقدمة كتابه «الليبرالية الجديدة»، يقول «ديفيد هارفي» أستاذ علم الأنسنة في نيويورك: «الليبرالية الجديدة في المقام الأول، نظرية في الممارسات السياسية والاقتصادية، تقول بأن الطريقة الأمثل لتحسين الوضع الإنساني، تكمن في إطلاق الحريات والمهارات التجارية للفرد، ضمن إطار مؤسساتي عام، يتّصف بحمايته الشديدة لحقوق الملكية الفردية الخاصة، وحرية التجارة والأسواق الاقتصادية، ويقتصر دور الدولة في هذه النظرية، على إيجاد وصون ذلك الإطار المؤسساتي الملائم لتلك الممارسات».
يقول ذلك، مقدِّماً أمثلة يرى من خلالها، بأن على الدولة أن تضمن قيمة وسلامة الموارد المالية، وإقامة الهيكليات والوظائف العسكرية والدفاعية والأمنية والقضائية، لحماية حقوق الملكية الفردية. أيضاً، عليها استخدام القوة إن اقتضت الحاجة لضمان عمل الأسواق بالصورة الملائمة، وفي حال لم يكن هناك أسواق في مجالات مثل الأراضي أو الماء أو التعليم أو الرعاية الصحية أو تلوّث البيئة، عليها إيجاد هذه الأسواق ولو عن طريق التدخل المباشر.
إن مارآه يحصل منذ السبعينيات، حيث شهدت مناحي التفكير والممارسات السياسية الاقتصادية كافة، تحولاً واضحاً نحو الليبرالية الجديدة التي فرضت الخصخصة، وتحرير الاقتصاد من القيود والضوابط الناظمة، وانسحاب الدولة خارج نطاق العديد من مجالات الرعاية الاجتماعية وغيرها، مما جعل الليبرالية الجديدة تهيمن على صيغة الخطاب الاقتصادي المعاصر، وتفرض تغلغل تأثيراتها حتى في طرائق التفكير.
بيد أن العملية الليبرالية الجديدة، استتبعت الكثير من التدمير الخلّاق، ليس فقط للأطر والقوى المؤسساتية السابقة، بل أيضاً لتقسيمات العمل والعلاقات الاجتماعية، وخدمات الرعاية الاجتماعية، والتركيبات التكنولوجية المختلفة، وطرق الحياة والتفكير والتكاثر والارتباط بالأرض، والعادات الشعورية والوجدانية.
الليبرالية الجديدة، تعتبر العلاقات المتبادلة في السوق الاقتصادي، قيمة أخلاقية بحدّ ذاتها، وقادرة على أن تكون دليل عمل للعقل الإنساني، بصيغه وأشكاله المختلفة، وبديلاً عن كلِّ المعتقدات الأخلاقية التي سبق اعتناقها، ليكون ما ينقصها عموماً، وهو ما يسعى الكتاب لتوضيحه، القصة السياسية الاقتصادية، لليبرالية الجديدة. من أين جاءت، وكيف انتشرت بمثلِ تلك الشمولية على المسرح العالمي؟.
الحرية كلمة أخرى.. لاستغلال الآخر
بعد تلك المقدمة والرؤى، يتناول «هارفي» تدرج الليبرالية في الصعود وصولاً إلى الجديدة منها. تلك التي بقيت مدة طويلة كامنة في ثنايا السياسة العالمية، لمواجهة التهديدات التي تعترض النظام الاجتماعي الرأسمالي عموماً، والتي دلّت على أن الحرية في مجتمع مركّب، ستجعله مشحوناً بالتناقضات، وإلى الدرجة نفسها التي ستصبح دوافع الفعل فيه، مقنعة وجذابة.
دلّت أيضاً، على أن هناك نوعين من الحرية، خيِّرة وشريرة وتعني الثانية حرية استغلال الآخر، أو الحصول على أرباح فاحشة، دون تحقيق خدمات مكافئة للمجتمع، أو حرية الاستئثار باختراعات التكنولوجيا، ومنع استخدامها للصالح العام، أو حرية الكسب من وراء النكبات والكوارث التي يجري افتعالها وهندستها في الخفاء، لتحقيق مصالح خاصة..!!
إنها الهيمنة الراهنة للتفكير الليبرالي الجديد. هكذا اعتبرها «هارفي» الذي رأى بأن هذا التفكير يجعل الانتقال إلى المستقبل، يعترضه العائق الأخلاقي للطوباوية الليبرالية التي جعلت فكرة الحرية:
«تنحطُّ فكرة الحرية، إلى مجرّد الدفاع عن حرية العمل التجاري، الذي لا يعني عملياً إلا الدفاع عن الحرية الكاملة للذين لا يحتاج دخلهم ورفاهيَّتهم وطمأنينتهم إلى دعم، وإلقاء فتات الحريات إلى باقي البشر، ممن يجهدون في استخدام حقوقهم الديمقراطية، للحصول على ملجأ يقيهم سلطة أصحاب الأملاك».
لاشكَّ أنها الحريات الشريرة، التي تضيِّع أو تبدِّد الحرِّيات الخيِّرة، ومنها على سبيل المثال، الحرية التي دفعت الولايات المتحدة، لشنِّ حربٍ عدوانية على العراق، بدعوى رغبتها في منح الشعب العراقي، حرية لم ينل منها سوى القتل والموت والدمار.
الليبرالية الجديدة .. تسليعٌ ومتاجرة
إن ما أراده «هارفي» من كتابه هذا، تعريف القارئ بماهيّة هذه الدولة التي طوّرت ممارساتها بطريقةٍ فوضوية، ابتعدت فيها بدرجة كبيرة عن القالب النظري، لتدخل في القالب العملي، ما جعلها صيغة سياسية مليئة بالإشكاليات والتناقضات التي منها:
«مساحات مبهمة، ونقاط نزاع واشتباك، وسعي الشركات الأقوى إلى تدمير الشركات الأضعف، وإخراجها من السوق، ولا يجد معظم المنظّرين الليبراليين، مشكلة في ذلك، حتى وإن أدّت نظرياتهم إلى زعزعة الاستقرار، والتدهور المجتمعي بأنواعه، وفي كلِّ مجالات الحياة..».
كلّ هذا، إضافة إلى سعيها لتسليع الأشياء والمتاجرة بها وبكلِّ العمليات والعلاقات الاجتماعية التي يفترض وجود حقوق ملكية لها، ولا يقتصر التسليع على القوى البشرية العاملة، بل إنه يمتدُّ إلى «تسليع الثقافة والتاريخ والطبيعة، باعتبارها مناظر أو استجمامات علاجية تجتذب السياح، وانتزاع أجور عن احتكار الإبداع والأصالة والتفرد (لأعمال فنية) مثلاً توازي كلها وضع ثمن لأشياءِ لم يجرِ أبداً إنتاجها كسلع في الواقع. تظهر هذه المعالم للأنظمة الرأسمالية بشكل واضح في الولايات المتحدة، فتجد أن زيارة الأماكن الطبيعية التي لا تتجاوز المتعة في زيارتها إلى أبعد من النظر إليها، أصبحت سلعاً يتم المتاجرة بها. هنا يظهر الانحراف الواضح لمفهوم السلعة عن شكلها التقليدي، من كونها إحدى مخرجات دورة الإنتاج في المصنع، إلى كلّ ما يمكن بيعه وتسويقه، شرط أن تكون الإيرادات التشغيلية لها مجدية من الناحية المالية».
توسعات جغرافية غير مستوية
في الفصول الأخيرة من الكتاب، ينوّه «هارفي»، إلى أنه من الصعب رسم خارطة متحرّكة لتقدّم الليبرالية الجديدة على المسرح العالمي، منذ عام 1970. ذلك أن معظم الدول التي اتَّخذت التحول الليبرالي الجديد، فعلت ذلك جزئياً فقط، أما التغييرات الكليَّة، فقد تركت آثاراً كريهة لليبرالية الجديدة، التي وسعت حدود التسليع، حتى طالت الإنسان بكلّ أفكاره ومعتقداته.
باختصار.. في هذا الكتاب، يقدّم «ديفيد هارفي» المعروف بدعمه للحركات الطلابية والمجتمعية والعمالية، الدليل النقدي الأكثر شمولية وقابلية للقراءة والفهم، ولما يمكن أن يُسمّى بالليبرالية الجديدة، ومن خلال اقتفاء آثارها، والبحث في أصولها، وفضح تأثيراتها المدمّرة على الغالبية العظمى من البشر، وفي كلّ مكان.
إنه «موجزٌ تاريخي» يختزله بما يهمّنا منه، معرفة ما يمكن إيجازه برؤية واستنتاجات واقعية، ولكلِّ من يريد أن يرى الليبرالية الجديدة دون تجميلٍ أو رتوش، وكما قال في إحدى الحوارته التي كشف فيها حقيقتها العارية:
المشكلة أن الليبرالية الجديدة، لم تعد تحظى بموافقة جموع السكان، لقد فقدت شرعيتها، الليبرالية الجديدة لا تستطيع البقاء دون الدخول في تحالف مع الدولة السلطوية. إنها تتَّجه الآن نحو تحالف مع الفاشية الجديدة، كما شهدنا من خلال جميع حركات الاحتجاج حول العالم، ويرى الجميع الآن، أن الليبرالية الجديدة تهدف إلى إغناء الأثرياء، على حساب الناس.

التاريخ: الثلاثاء23-3-2021

رقم العدد :1038

 

آخر الأخبار
الرئيس الأسد يصدر قانون إحداث وزارة “التربية والتعليم” تحل بدلاً من الوزارة المحدثة عام 1944 هل ثمة وجه لاستنجاد نتنياهو بـ "دريفوس"؟ القوات الروسية تدمر معقلاً أوكرانياً في دونيتسك وتسقط 39 مسيرة الاستخبارات الروسية: الأنغلوسكسونيون يدفعون كييف للإرهاب النووي ناريشكين: قاعدة التنف تحولت إلى مصنع لإنتاج المسلحين الخاضعين للغرب الصين رداً على تهديدات ترامب: لا يوجد رابح في الحروب التجارية "ذا انترسبت": يجب محاكمة الولايات المتحدة على جرائمها أفضل عرض سريري بمؤتمر الجمعية الأمريكية للقدم السكرية في لوس أنجلوس لمستشفى دمشق الوزير المنجد: قانون التجارة الداخلية نقطة الانطلاق لتعديل بقية القوانين 7455 طناً الأقطان المستلمة  في محلجي العاصي ومحردة هطولات مطرية متفرقة في أغلب المحافظات إعادة فتح موانئ القطاع الجنوبي موقع "أنتي وور": الهروب إلى الأمام.. حالة "إسرائيل" اليوم السوداني يعلن النتائج الأولية للتعداد العام للسكان في العراق المتحدث باسم الجنائية الدولية: ضرورة تعاون الدول الأعضاء بشأن اعتقال نتنياهو وغالانت 16 قتيلاً جراء الفيضانات والانهيارات الأرضية في سومطرة الأندونيسية الدفاعات الجوية الروسية تسقط 23 مسيرة أوكرانية خسائر كبيرة لكييف في خاركوف الأرصاد الجوية الصينية تصدر إنذاراً لمواجهة العواصف الثلجية النيجر تطلب رسمياً من الاتحاد الأوروبي تغيير سفيره لديها