لم يعد الأمر المطروح للنقاش.. هل نتحول إلى عالم الرقمية أو بصيغة أخرى.. إلى مجتمع الحتمية التقنية… هذا أمر قضى ومضى فالحياة لا تنتظر أحداً بقطارها العلمي السريع.
الأمر اليوم.. كيف يبدو مجتمع الحتمية الرقمية الذي حولنا في جوانب كثيرة إلى رموز وإشارات وأرقام تعالج بآلة صماء لكنها ذكية تريح الإنسان وتختزل الجهد والزمن..
النقاش الذي بدأ في العالم كله ولاسيما في الغرب هو البحث في كواليس وأسرار وخبايا المجتمع المرقمن ومن يستثمر فيه وكيف نكون السلعة التي تباع وتشترى ونحن لا نعرف قيمة ما نقدمه من بيانات وأرقام للمجتمع الحتمية التقنية…
كيف يحصي هذا العالم كل نفس علينا ويحول بيانتنا إلى ثروات طائلة كما أسلفنا سابقا.
الأكاديمية والباحثة الأميركية شوشانا زوبوف توقفت في الكثير من دراساتها عند الكيفية التي حولت بها شركة غوغل وشركات أخرى معطياتنا الشخصية إلى السلعة الأرفع قيمة كما تقول في حوار أجري معها حول دراساتها هذه نشر منذ فترة قريبة.
وهي أي شوشانا صاحبة مصطلح رأسمالية المراقبة الذي يعني بيع أسرارنا الشخصية وبياناتنا كلها لكبرى الشركات العالمية التي تدرس التحولات والاتجاهات التجارية والاقتصادية وتعمل وفقها.. تعرف كيف نفكر وإلى أين نتجه ما هي أفراحنا أحزاننا.. ماذا نحب وكيف نمارس أبسط أجزاء حياتنا.
تحصي أنفاسنا.. كل ثانية ونحن بكل بساطة نقدم لها ذلك على طبق من الثقة. والمفارقة العجيبة أننا في عصر الحتمية الرقمية أو التقنية نشكو ونتبرم إذا ما عرفنا أن مؤسسة ما من مؤسساتنا قد تابعت دون علمنا قضية من قضايانا.
نتبرم من مراقبة كتبنا ووسائل إعلامنا إذا حصل ذلك، لكننا ننغمس بكليتنا ونصفق لمراقبة أخرى الداء وفيها السم القاتل..
هل فكر أحدنا مثلا كيف يبتكر الفيسبوك كل يوم أمراً جديداً ويضعه أمامنا.. مثل الحالات والإشارات التي تدل على الفرح الحزن الغضب وغير ذلك…
أول ما في هذه الإشارات أنها تحل محل اللغة أي لغة تختزل المشاعر برمز بسيط لا قيمة له إلا عندما يخزن في بيانات غوغل.. ومن ثم يكون جاهزاً للاستخدام وقراءة المعطيات..
وبهذا المعنى كما تقول الباحثة شوشانا في مؤلفه رأسمالية المراقبة.. التجربة الإنسانية هي كنز المستقبل بما تقدمه من بيانات تباع وتشترى وتحلل وتسوق لترسم ملامح الإنتاج في كل شيء..
وحسب دراسة أخرى تابعت القضية نفسها ليس الأمر كما يقول البعض.. إنه ليس لدي أسرار شخصية فليراقبوا ما يريدون.. بل الأمر أننا تحولنا إلى سلع يتاجرون بنا كأي شيء.. لا قيمة إنسانية لنا.. هنا يكمن الخطر.. نعرف أنهم عبر الأقمار الصناعية يراقبون كل شيء ويمكنهم التسلل إلى أكثر اللحظات الإنسانية خصوصية.. هذا العمل اللاإنساني هو الذي يجعل الحتمية التقنية أو الرقمية وحشاً يفترس قيمنا متى أراد وبالطريقة التي تحلو له.
ليس احتفاء بنا يطلب منا الفيسبوك أن ندون يومياتنا ومشاعرنا ولا كرماً منه أنه يستعيد وقائع أو بوستات نشرناها من سنوات.. يفعل ذلك للمقارنة والدراسة ومعرفة ماذا تطور لدينا.. هل مازالت تلك الحالات تعنيننا.. هل تجاوزناها.. كيف نفكر وإلى أين نتجه ونتوجه..
إنها معامل الحتمية الرقمية التي لا تعد الشطائر والفطائر كما تقول شوشانا بل تشكل المجتمعات أي تهندس بنيتها المستقبلية كما تخطط لها مراكز الدراسات الغربية ولاسيما الاستخبارية.. ويبقى السؤال: ماذا عن الدراسات العربية التي تناولت هذه الجوانب الاجتماعية للتحول الرقمي.. هل هي موجودة.. وإلى أين وصلت. من يقوم بها ومن يتابعها؟.
معا على الطريق- بقلم أمين التحرير- ديب علي حسن