الملحق الثقافي:حبيب الإبراهيم:
أن تكتب عن الشّهداءِ في عيدهم، وعن الشَّهادة في أعظم وأرقى تجلِّياتها، وعن الشهيد الذي عنده «تلاقى الله والبشر».. يعني أنّك تكتب عن الطُهر بأبهى صوره، وأنقى سرائره، وعن البطولة والشرف، الفداء والعطاء، الخلود الأبدي، والقيم الإنسانيّة بأرقى تجلِّياتها. ذلك أن الشُّهداء هم رمز التضحية، وهم في المقدمة، في الطليعة، سيّجوا الوطن بدمائهم الذكيّة، وأرواحهم الطاهرة، وعبروا إلى الخلودِ الأبدي …
ولأنهم رفضوا الخنوع والرضوخ والاستسلام، لإرادة المحتلِّ العثمانيّ، الذي أراد إسكات الصوت المقاوم، وإخماد جذوة النضال والتحرّر.. ولأنهم أيضاً، طالبوا بأبسطِ حقوق بلادهم، الحريّة والاستقلال، أمر «جمال باشا السفاح»، بإعدامهم في السادس من أيار عام 1916 في دمشق وبيروت، فكان حدثاً مفصليّاً في تاريخ النضال العربيّ، وبالرغم من بشاعة الحدث إنسانيّاً، إلا أنه شكّل الشرارة الأولى لاندلاع الثورة العربية الكبرى، فكانت بداية النهاية، لدحرِ المستعمر العثمانيّ عن هذه الأرض، وإلى غير رجعة.
في السادس من أيار، كانت الأمّة على موعدٍ جديدٍ مع الضياء، وكانت بداية انتصار الحقّ والمقاومة، إذ لا انتصار بلا تضحيات، ولا استقلال بلا شهداء..
كوكبةٌ من الوطنيّين الأحرار، رفضوا الظلم والاستبداد، فعُلّقوا على أعواد المشانق، في ساحتيّ المرجة بدمشق، والشهداء في بيروت، وقد شكّلت هذه الكواكب النّيرة، طليعة أبناء الأمة الرافضة للاستعمار، والاحتلال بكلّ أشكاله ومسمَّياته، فقادوا حركات التحرّر العربيّ، وكانوا من أهم عوامل اليقظة العربيّة، بوعيهم وإحساسهم القوميّ بعروبتهم، وإيمانهم المطلق بأنّ فجر الأوطان المضيء، يصنعه أبناؤه الشرفاء..
لقد شكّل السادس من أيار، عاملاً رئيسيّاً لانطلاق الثورة العربية التي أنهت الاحتلال العثماني، وعبّدت الطريق أمام الأجيال القادمة، لمقاومة الاستعمار والاحتلال، ومشاريع الهيمنة، من خلال ترسيخ وتعزيز فكرة الشّهادة كقيمةٍ عظمى في عقولِ وأفئدة الإنسان العربيّ.. قيمةٌ أصبحت شريعةً وقانوناً على مرِّ الأزمنة والأجيال …
واستمرّت قوافل الشهداء، قوافل النور التي أضاءت دروب الكفاح والنضال، فكان شهداء الاستقلال ضد المحتلّ الفرنسيّ، الذين طهّروا الوطن بالدماءِ الطاهرة الزكيّة، بعد أن خاضوا ملاحم بطوليّة عمّت أرجاء سورية، وأذاقت المحتلّ مرارة الهزيمة والهوان، بل وأجبرته بعد أكثر من ربع قرنٍ من الكفاح والنضال، وبكلّ أشكالهما وألوانها، على الرحيلِ عن أرض سوريّة. كان ذلك، صبيحة السابع عشر من نيسان عام 1946. يوم الجلاء الذي ما نزالُ نحتفلُ فيه، بعرسِ الوطن الخالد.
استمرّت قوافل الشهداء، قوافل النور، فكان شهداء الصراع العربيّ الصهيونيّ، حيث روت الدماء الطاهرة ثرى الجولان، وجبل الشيخ، في حربِ تشرين التحريريّة، وحرب الاستنزاف، وتحرير مدينة القنيطرة التي رُفع علم الوطن في سمائها، عالياً خفَّاقاً..
ها نحن اليوم، ها هم رجالنا، وحماة أرضنا، يواجهون بإرادةٍ ثابتةٍ، وثقةٍ مُطلقة بحتميّة الانتصار، الإرهاب الأسود فكراً وممارسةً.. يواجهونه بالعقيدة والإيمان بالوطن، ويلاحقون فلوله في كلّ الجغرافية السوريّة، ليطهّروا البلاد من رجسه.
لقد قدّمت سوريّة، وعلى مدى العشر سنوات الماضية، من حربها ضدّ الإرهاب، قوافل الشهداء في حربٍ مركّبة، حربٌ هي الأقذر في تاريخ الحروب. الحرب التي سعى الأعداء من خلالها لتدميرها، بحضارتها وتاريخها وإنسانها الممعن في النقاء والجمال، فكانت حربها الوطنية العظمى، ضد الإرهاب والفكر التكفيريّ الظلاميّ، العابر للحدود.
نعم، لقد قدّمت سوريّة قوافل شهداءٍ لم تنتهِ بعد، فنزفت دماء أبنائها، دفاعاً عن وجودها وحضارتها الإنسانية.. دماءُ رجال الجيش العربيّ السوريّ، وقوى الأمن الداخليّ، والقوات الرديفة، ممن أعادوا الأمن والأمان إلى ربوع الوطن، وسيجوه بنبضِ أرواحهم، وشقائقُ دمائهم.
تخليداً لهذا اليوم، ومنذ قرنٍ ونيفٍ، أصبح السادس من أيار عيداً قومياً في الوطن العربيّ، حيث يأخذ في سورية كلّ الاهتمام، إيماناً منها بعظمة الشهادة والشهداء، ولأنّ الشهادة، وكما وصفها القائد المؤسّس حافظ الأسد: «قيمة القيم وذمّة الذمم».
أيضاً، ولأن الشّهداء في قلبِ وعقلِ ووجدان، قائد الوطن، بشار الأسد، فقد خاطبَ أسرهم:
«وإذ ننحني إجلالاً أمام عظمة شهدائنا وجرحانا، فإنه من واجبنا أن نقف احتراماً أمام عظمة عائلاتهم الجبّارة، فتحيّة لهم على ما ربّوا، وتحيّة لأبنائهم على ما قدَّموا».
أخيراً، ولأن «الشهادة خلود»، كتبَ شهداءُ سوريّة أسفارَ الخلود بدمائهم، فكانوا عنواناً للكرم وأبجديّةً للعطاء، هم الأعلون في حياتهم واستشهادهم وخلودهم، منهم تتعلَّم الأجيال معاني البطولة والفداء والتضحية، ومن خلالهم تتجسَّد الوطنيّة والنبل الإنساني.
في عيدِ الشُّهداء «أكرم من في الدنيا وأنبل بني البشر»، تنحني الهامات إجلالاً وإكباراً لدمائهم الزكية، لأرواحهم الطاهرة، لكرمهم، لتضحياتهم، لنبلهم، لعطائهم الذي لا تحدّه حدود، ولأنهم بيارق العزّة والكرامة، والضياء المشرق، تمضي قوافلهم توقظ فجرَ الوطن، وتكتب عنوان كرامته ومجده وانتصاره، بأحرفٍ من نور..
التاريخ: الثلاثاء4-5-2021
رقم العدد :1044