الملحق الثقافي:محمد الحفري *
لأن هناك ما هزَّني وزلزل مشاعري، وجعلها رجراجة غير مستقرّة، حاولت في هذه الكتابة جاهداً أن أكون بعيداً عن النقد وعن مداخله، ومدارسه وأعلامه، ومصطلحات مفكّريه. بعيداً عن الحواجز التي تفصل ما بين التقليد والحداثة في فنّ الروي، وبعيداً عن الشعر، والقصّ، ورّبما بعيداً عن كلّ شيء. لكنني وجدت نفسي في وسطٍ ما، حاولت الابتعاد عنه حيث جمعت رواية “الرجفة” كلّ ما يثير الانتباه والدهشة، ولذلك وجدت روحي قد تبلَّلت مراراً، وبلَّلت أوراق هذه الرواية، وخاصة وأنا أسافر مع بطلها “أحمد” لأطوف مع عوالمه الخاصة، وأجوب تلك المطارح التي مرّ منها، متأنّياً تارةً ومسرعاً في تاراتٍ أخرى، وقد شعرت أنني قد ركبت إلى جانبه في الطائرة التي حملته من لندن إلى بلادنا، ثم عاودت الصعود معه في سيارة الأجرة المتّجهة إلى مدينته الحبيبة، وعند الوصول لم يمهله نبض الحنين، فطلب من السائق أن يتوقف قليلاً كي يرقب ماء النهر العظيم، ويتنفس هواء المكان، ويتصالح ولو لحظات مع الشوق الذي فتك بدمه وأعصابه على مدار سنوات الغربة البغيضة، بعيداً عن الأهل وأولهم شقيقته “مريم” و “سلمى” عشيقة روحه وقلبه وكل خليّة منه.
وأقول الآن، وأنا أشرّع المجاديف والأجنحة صوب القلق المزمن: لقد أخذتني هذه الرواية بغتة في مسارها، من دون أدنى حركة مني، وأخذتني الرجفة فماشيت مؤلفها المبدع “صالح الحاج” في مسيله المتدفق فوق الورق، ليبدو لي وكأنه الفرات في عبوره مجتاحاً تلك الأمداء الشاسعة، من السهول والبراري والقفار، ليروي ظمأها ويعيد إليها مجد الحياة وزهوتها.
رواية “الرجفة” هي العمل السردي الأول للمؤلف “صالح الحاج”، من بعد عملين أو ديوانين شعريين هما “أوراق لخريفِ العمر”، و”بوح السنديان” وفي عالم الأدب، وفنّ السرد على وجه الخصوص، يعوّل كثيراً على النبضة الأولى لهذا الفن، ففي دفقها يمكن أن تتّضح بعضاً من الخطوط العامة التي يريد الكاتب أن يسلكها، وربما تتّضح معها أيضاً تلك الدروب الوعرة، والمتشعّبة التي ستخاض فوق خطوطها مغامرة التجريب، التي تشوي في مجامرها، فؤاد عاشقين لوّعهما الفراق والبعد والحرمان كما في هذه الرواية.
تبدو الرواية منذ طرقتها الأولى، أنها تنتمي إلى التقليدية أو “الكلاسيكية”، وهذا بطبيعة الحال ليس مثلبة تسجل عليها، لأن أشهر الكتابات المحلية والعالمية هي من هذا النوع، والحداثة قد تكون من خلال متونها وجوهرها الأساس، حيث نجد الاسترجاع والتذكّر وترك الفراغات ما بين السطور، ليكملها قارئ متبصّر يستطيع أن يتخيّل ما يمكن أن يحدث في بيئةٍ عاش فيها، أو في مكان مشابه لها، وقصة العشق التي ضمّها العمل بين دفتيه، ليست قصة عادية، بل هي وقّادة مع اشتعالات الشوق المنداحة في الجسد والروح معاً، ولذلك أقول قد يتجرأ الكثير من الكتّاب على تناول قصص الحب، ولكن قلّة منهم من ينجح في الوصول إلى الهدف، وأجزم أن هذه الرواية تنتمي إلى تلك القلّة، وأزيد على ذلك أنها استطاعت أن تسكب تلك المشاعر والأحاسيس فوق صفحاتها، لتمسّ أرواحنا وتحف بها قبل كل شيء، فمن منا لم يكن عاشقاً فوق هذه البلاد، فكيف إذا كان العشق مرتبطاً بجنة وارفة الظلال مثل مدينة الرقة؟.. ويا لقصصِ العشاق حين تنكشف، فهي تكشف معها أصلهم، ومعادنهم الحقيقية ومعاناتهم وأشواقهم ومكابداتهم، و”أحمد، وسلمى” مثالاً عن عشق أهل الفرات وذوبانهم، مع من تخفق له قلوبهم.
لعل المصادفة الجميلة وحدها، هي من جعل رواية “الرجفة” تقع بين يديّ ومن دون شعور مني وجدتني أكتب: “ّتباً للحزن الذي يستوطن أعماق أرواحنا ويستقر فيها”.. ثم أعلنت من دون خجل، أنها أبكتني في أكثرِ من موضع، وأنني بحاجةٍ لوقتٍ غير قليل كي أجفّف دموعي، وهذا يعني أن لها سحراً خاصاً، ورائحة طيبة تفوح منها، إضافة إلى صدق ممزوج بالفن وترب الجزيرة وماء الفرات، وهو بالتأكيد ما جعلها تفعل فعلها وتصل إلى النفس بتلك الطريقة، وهذا ليس بالأمر السهل، ولا الهين.
لا أريد الشرح والتفصيل في هذه العجالة، وليست الغاية منها التشويق والإثارة، كما أننا لا نريد أن نضيع على من تقع الرواية بين يديه متعة المتابعة والاكتشاف والتحليل، لكننا فقط نشير إلى بناء شاهق، تبدأ حركته الدرامية منذ زواج “مريم” شقيقة البطل، ثم تحوطه مع حبيبته “سلمى” تلك الظروف القهرية التي تحكمها العادة والعرف، وقد تقاسمت البطولة مع تلك الشخصيات التي ذكرنا، تلك اللهفة التي حكمت بطلها وتسيّدت عليه ، والأهم من ذلك برأينا هو المكان، فكانت الرقة حاضرة في الأفئدة وبين الضلوع وطناً لا تشبهه الأوطان.
ختاماً نجد لزاماً القول، إننا أمام عمل يختار في شكله سعة البراري، وامتداد السهول، ووشوشات النهر، وتمايل أجمات القصب، وخضرة الطبيعة ومواسم الخير والبركة وعبق الذكرى، وفي خيارات مضامينه ما يستحق أن نتوقف عنده طويلاً، في محاولة استكشافِ ما جرى للبحثِ في مكنونات مجتمعاتنا وخصائصها، ولنسأل لماذا حدث ما حدث؟.. لماذا نحن حزانى؟.. لماذا يحكم عشقنا الفراق والوصل أولى بنا؟.. وغير ذلك الكثير من الأسئلة، التي برع “صالح الحاج” بذكائه الوقاد في استفزازنا كي نبحث عن أجوبة لها، وقد تخفّى خلف ساردٍ، وراوٍ، وروائيّ في الآن ذاته، ليدخلنا في سرديّة الحزن الذي صار جميلاً على يديه، وقد أبصرنا من بعيد ظلال من لاحت على ملامحه راية البشر، مهلِّلاً بالمنجز الذي يتبختر الآن بكلّ ثقة، فوق هذا الثرى.
*روائي وقاص ومسرحي
التاريخ: الثلاثاء1-6-2021
رقم العدد :1048