المفكّر الملحميّ الجديد.. يكتبُ بريشته وقيثارته: مشروع استعادةِ روح الحضارة

 

الملحق الثقافي:د. دريد عوده *

إنّ الأدب الملحميّ الجديد هو أكثر بكثير من مجرّد إعادة كتابة أو صياغة الأعمال والروائع الملحمية القديمة.. وليس كلّ من يعيد كتابة ملحمةٍ قديمة، مؤلِّفاً ملحميّاً جديداً ولو ضمّنها، من باب الاجتهاد، مضامين وعناصر ووقائع جديدة غير موجودة بالأصل.. هذا جزء من الأدب الملحمي الجديد، لكنه على أهميته غير كافٍ.
فإذا كانت الميثولوجيا، كما أعتبرها، التاريخ أو الإرث الروحي الأصيل لشعب من الشعوب، وتأريخاً حضاريّاً لشخصيةِ الجماعة الطبيعية، بل فيها روح الشعب والنماذج الأولى (الآلهة والأبطال) المكوِّنة لشخصية الجماعة وللعقل الباطن، أي اللاوعي الفردي والعام، بحسب عالم النفس «كارل غوستاف يونغ»، فإن مؤلِّف النص الملحميّ الجديد، يعيد كتابة هذا التاريخ الحضاريّ لكل الشعوب بـ تصرّف، بما يتعدّى الزمان والمكان والحدود الجغرافيّة والنفسيّة للأمم، ليضع التاريخ الحضاريّ الواحد للبشر، ويؤسِّس لهم هوية روحيّة كبرى، جامعة في ما يتعدّى هوياتهم الدينيّة والقوميّة الصغرى، على اعتبار أن الروح واحد، كونيّ بجوهره، وهو بذلك الحقيقة الوحيدة للبشر جميعهم..
أقول ما يتعدّى الزمان.. إني أتكلم هنا عن تاريخ آخر، تاريخ أسمّيه التاريخ السرّي، التاريخ الروحيّ، للشعوب التي هي نفسها لا تعرفه..
وما يتعدّى المكان.. إني أتكلم هنا عن الجغرافيا المقدّسة، عن طبقات جيولوجيا العقل، والمهمّة الأولى للأدب الملحميّ الجديد، التنقيب في هذه الجغرافيا للكشف عن الجوهر، للوصول إلى النار المقدّسة، تلك المادة الكونيّة الأولى، المادة غير الماديّة، الموجودة هي نفسها في البشر جميعاً.
لذا أقول، إن كاتب النصّ الملحميّ الجديد، ليس كاتباً أو أديباً عادياً؛ هو مؤرّخ حضارات، وفيلسوف تاريخ ودين بالدرجة الأولى، وعالم نفس منقِّب في طبقات اللاوعي أو العقل الباطن. والنص الملحميّ الجديد هو بنهاية المطاف، نصٌّ فلسفيّ في الحضارة والتاريخ والدين، وليس فقط نصّاً أدبياً.. إنه أدب الحضارة، وأدب التاريخ، وأدب الفلسفة، وأدب الدين، بل هو أكثر من ذلك، إنه حضارة الحضارات، وتاريخ التاريخ، وفلسفة الفلسفة، وهو الدين الخالد أي دين الأديان..
لمّا أقول حضارة الحضارات، وتاريخ التاريخ، وفلسفة الفلسفة، ودين الدين كلّ دين، فأنا أعني الأساس الروحيّ للحضارة والتاريخ والفلسفة والدين.. فمن دون الروح كلّ هذا لا يكون..
الحضارة والتاريخ والفلسفة والدين، تُمظهر الروح في العالم في وحدة وجوديّة عضويّة حيّة، للكشف عن أقانيمه وصفاته.. من هنا أقول، إن النص الملحميّ الجديد هو نصٌّ روحيّ أولاً وأخيراً، لكنه يتميّز عن باقي النصوص الروحيّة بكونه نصّاً كشفيّاً وليس غنوصياً، بل هو يتعارض مع الفكرة الباطنية الغنوصية.. إذا كانت الحقيقة بحوزتك يا أخي، قلْها، لا تتركها طيّ المغاور والكهوف.. لذا الأدب الملحمي الجديد، دمقرطة العلوم الباطنية.
الأدب الملحميّ الجديد، هو باختصار شديد، فلسفة الميثولوجيا، فلسفة اللاهوت الميثولوجيّ، لأن جوهر الميثولوجيا لاهوتيّ دينيّ بامتياز.. فالأساطير كانت دين العامّة لدى الشعوب القديمة، أمّا جوهرها الروحيّ فكان علم الخاصة وطيّ أسرار المعابد.. ويأتي الأدب الملحميّ الجديد، للكشف عن هذا الجوهر الروحيّ الكامن في الميثولوجيا.
الأديان نفسها شربت كثيراً وحتى الثمالة من معين أساطير الأوّلين، إذ لا انقطاع في أمور الروح الأزلي، ولا انقطاع في الوحي. لذا النص الملحمي الجديد، نصٌّ تأسيسيّ عميق، لا توليفيّ للفكرة الروحية التوحيديّة الكونيّة.
لكن «المفكّر» الملحميّ الجديد، يكتب فلسفة الحضارة والتاريخ والدين بالصورة واللون والموسيقا.. بريشته وقيثارته، يكشف الروح الكلّي للعالم، لأن الحلم لغة الروح والموسيقا حروفها.
هو يريد أن يستعيد تلك الوحدة الأولى المفقودة التي ذكرتها سابقاً.. لكن عليه أن يكون صاحب بصيرةٍ ثاقبة ليقف على الصلة العميقة، وهي صلة الروح الجوهر، بين الحضارات والثقافات والشعوب.. عليه أن يُتقن فنّ القفز فوق الحدود، أن يكون قوس قزحٍ الذي يربط بين ضفاف المكان والزمان، يدمج الألوان لكنه يُبقي على تمايزها وبهاء فرادتها.. فالساقية تحب أن تُغنّي على الرابية لا أن تذوب في البحر، ولو كان البحر ذاتها العظمى حيث تكتشف أفقها الأوسع، وذاتها الرحبة المُطلّة على اللانهاية.
وفي عملية استعادة الوحدة المفقودة، على كاتب النصِّ الملحميّ الجديد أن يتقن فن النزول في العتمة المقدّسة، عتمة الأسرار، حيث الأشياء في وحدة تامة، وذلك من أجل أن يكشف عن صلة الروح بينها، تلك العروة الوثقى التي هي الله نفسه.. فالله هو وحدة الكون؛ هو الوجدان الواحد الأعمق للبشر جميعهم، المؤمنين وغير المؤمنين.
كلمة أخيرة في هذا السياق.
كما عبّد الرومنطيقيون الأوائل الطريق أمام الثورة الفرنسية وكانوا روّادها وفلاسفتها والآباء الروحيين لها، فإن الأدب الملحميّ الجديد كما أنظر إليه، سيعبّد الطريق أمام ثورة من نوع آخر: الثورة الروحية في العالم.
الأدب الملحمي الجديد، هو أدب الثورة الروحيّة القادمة، التي بدأنا نشهد إشاراتها. فـ «القرن الواحد والعشرون إمّا سيكون روحياً، أو لن يكون»، كما قال «أندريه مالرو»، وأزيد: الثورة الروحيّة إما تكون في الداخل، داخل الإنسان ومنه، وإما لن تكون.
لقد قال الله كلمته، كشف روحه القدّوس، وبقي على الإنسان أن يقول كلمته.
وقالت السماء كلمتها، وبقي على الأرض أن تقول كلمتها.. أن تكشف عن أبناء النور والحياة، هؤلاء هم الكلمة في الأرض.
يقيني أن الثورة الروحيّة القادمة، حتماً لن تكون وحياً من السماء، بل كشفاً وجوديّاً روحيّاً من الأرض، كشف الإنسان عن ذاتهِ الإلهيّة.
 *مفكر لبناني مقيم في نيويورك

التاريخ: الثلاثاء1-6-2021

رقم العدد :1048

 

آخر الأخبار
بعد توقف سنوات.. تجهيز بئر مياه تجمع «كوم الحجر» "موتوريكس إكسبو 2025" ينطلق الثلاثاء القادم رؤية وزارة التربية لتشريعات تواكب المرحلة وتدعم جودة التعليم العودة المُرّة.. خيام الأنقاض معاناة لا تنتهي لأهالي ريف إدلب الجنوبي منظمة "رحمة بلا حدود" تؤهل خمس مدارس في درعا مجلس مدينة سلمية.. مسؤوليات كبيرة و إمكانات محدودة إنقاذ طفل سقط في بئر مياه بجهود بطولية للدفاع المدني  المجموعات الخارجة عن القانون في السويداء تخرق وقف إطلاق النار هجمات " قسد " و" الهجري " .. هل هي صدفة  أم أجندة مرسومة؟! تجربة إقليمية رائدة لوفد من الاتصالات وحداثة النموذج الأردني في تنظيم قطاع الاتصالات والبريد  صعود الهجري وتعقيدات المشهد المحلي في السويداء.. قراءة في ملامح الانقسام والتحوّل  العائدون إلى ريف إدلب الجنوبي يطالبون بإعادة الإعمار وتأمين الخدمات الأساسية رغم التحديات الكبيرة.. انتخابات مجلس الشعب بوابةٌ للسلم الأهلي  اختيار الرئيس 70 عضواً هل يقود إلى ... صناعيون لـ"الثورة": دعم الصناعة الوطنية ليس ترفاً المجمع الإسعافي بمستشفى المواساة الجامعي .. 93 بالمئة إنجاز يترقب قراراً للانطلاق باحث اقتصادي يقترح إعداد خطط لتخفيض تكاليف حوامل الطاقة  حلب تضع خارطة طريق لتطوير البيئة الاستثمارية وتعزيز التنمية الاقتصادية اختتام امتحانات الثانوية العامة.. طلاب حلب بين الارتياح والترقّب  الثروة الحراجية في درعا.. جهود متواصلة تعوقها قلّة عدد العمال والآليات دعم الأميركيين لحرب إسرائيل على غزة يتراجع إلى أدنى مستوى