أرادوا لبلادنا العربیة الفوضى (الخلّاقة)، لكن المفاجآت كانت أكبر من توقعاتھم، ومما خططوا لھ، وكان آخرھا أن جاءھم ــ أو بمعنى أصح ــ جاء العالم بأسره الفیروس الهدام الذي زرع الرعب في النفوس، والفوضى المنظمة في محاولة القبض علیه، وإخماده، بینما ھو یتفنن باستحداث سلالات جدیدة له بین وقت قصیر وآخر.. وھو الذي ھدم اقتصادات كبرى لصالح غیرھا أصغر منھا لتنمو ھذه المستجدة على حساب الأولى، وتزدھر، في حین أنھا لم تكن قبل زمن الجائحة مرشحة للنھوض بھذه القوة، وقد اكتسبت تطوراً سریعاً جراء التغیرات المفاجئة التي طرأت على أرض الواقع بعد ان تفشى الوباء في كل الدول، والأحیاء.
والفیروس الذي مازال لغزاً، وموضع شكوك في نشأته، یحتدم الجدال حوله، ویظل السؤال معلقاً دون أن یُحسم لا سلباً، ولا إیجاباً، بینما التحریات تستعر لعلھا تمسك بطرف خیط یساعد على الخلاص من ھذا البلاء الذي لم یوفر الأجساد قبل الأرواح..
وھا ھو ھذا الكائن الدقیق الذي انتشر بشراسة في كل الأجواء قد أجبر حكومات الدول العظمى على أن تتعاون فیما بینھا وبین العالم الذي یسمونه بالثالث، وتنسق جھودھا بین مراكزھا البحثیة والدوائیة، ومراكز الأبحاث في آخر بقعة من العالم للوصول إلى علاج، أو لقاح یحمي البشریة من أن یفتك بھا ھذا الوباء أكثر مما فعل لتحقیق الأمن الصحي الدولي.
فكیف كانت ستنسق تلك الجھود لو أن ھذه الدول تعیش في حالة من الفوضى الخلاقة، أو المنظمة لا فرق؟ أم إنھا الفوضى التي یصدرونھا خارج حدود بلدانھم، ویحرصون على ألاّ تمس أسوارھم؟
إلا أنھم الآن یضطرون لأن یقوموا بعملیة تنظیم واسعة النطاق لا مجال للفوضى فیھا لتشمل كل دول العالم في تلقي اللقاح الذي یحمي، ویضطرون أیضاً لأن یبادروا بمساعدة الدول النامیة، وغیر القادرة على توفیر جرعات اللقاح، لأن تواكب موجة الحمایة بالتوازي مع الدول الغنیة، والقادرة على توفیره، وكأنه الرد العفوي من فكرة التنظیم ضد فكرة
الفوضى.. وما لم تتم حمایة أغلب البشر بواسطة اللقاح فلن یكون بالإمكان التغلب على الفیروس الذي یبتكر أسالیبه، وألاعیبه لیفوز بالبقاء بیننا لعل ما أصاب العالم من بلاء بسبب الوباء یرجعه إلى صوابه فلا یعود یسترسل في إفساده لبیئة الأرض من جھة، ولا یعود من جھة أخرى یقوم بتغذیة الصراعات التي تقوم بین البشر من الحروب، والنزاعات التي تقفد الإنسان إنسانیته، وتھدم بنیان الحضارة.. والحضارات متصلة بین بعضھا بعضاً في حواراتھا التي لا تنقطع، وھي تدعم بعضھا بعضاً أیضاً، وتؤمن بالعدالة، والمساواة بین الشعوب، والدول لیكون التعاون وثیقاً فیما بینھا سعیاً نحو التكامل ولیس الصراع.
أما السرعة في تحقیق الوقایة، وتنفیذھا، فھي مطلب مُلحٌّ في ھذه الحال من السباق مع تحورات الفیروس الوباء حتى لا تتوسع الھوة بینھما.. فالشعوب لا تفنى ولو أصابتھا الفوضى قبل الأوبئة، والإنسان یظل ھو مصدر التنمیة، والتقدم الذي لا یمكن تجاھله.. وحتى إذا ما أصابت بعض الدول، والشعوب الفوضى، والنزاعات فھي تظل قادرة على أن تستعید
عافیتھا، وھویتھا، وقدرتھا على البناء من جدید وفي ظل ما نحن فیه لم یعد ھناك أمام مَنْ تسبب بالفوضى إلا أن ینزع فكرتھا الشیطانیة من رأسه من خلال تعاونه، وتقدیمه للمساعدات على تنوعھا حتى ینجو البشر جمیعاً في قارب نجاة واحد.. وألاّ یعود الكیل بمكیالین ھو السائد، والمقیاس، والتعامل بالعدل، والمساواة ھو الأساس ثم مَنْ قال إن الفوضى یمكن لھا أن تخلق نسقاً خلاّقاً؟ ومَنْ قال إن الشعوب لا تنھض من بعد كبوتھا إذا ما أصابتھا انتكاسة ما، أو أن الفوضى، ولو كانت تجاوزا خلاّقة، ستُخفض
من عزیمتھا، وإیمانھا بأنھا قادرة على أن تصنع غدھا؟ بل إنھا تفعل ولو من بین الحطام، والركام.. وشواھد التاریخ أكثر من أن تحصى مادامت الشعوب تنتمي إلى وجدانھا، وھویتھا التي ھي ملامح وجھھا.
إضاءات – لینـــــــا كیــــــــــــلاني
* *